مصر بلا موالد ينقصها الكثير من الفرح والبهجة والإشراق.
وإذا كان للمسلمين فى مصر عيدان هما عيد الفطر، وعيد الأضحى، فإن الموالد الدينية الصوفية، كانت أعيادًا دائمةً موزَّعةً على جغرافيا مصر المُمتدة فى ريفها وحضرها.
والمولد كما عرفتُه فى طفولتى وصباى طقسٌ شعبيٌّ دينيٌّ، يتم فيه الاحتفاء والاحتفال برمزٍ صوفيٍّ، أو بطريقةٍ صوفيةٍ رئيسيةٍ، أو فرعيةٍ تمثِّل جُزءًا من خريطة الطرق الصوفية فى مصر.
ومنذ القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى)، ومصر تحتفل بأوليائها وأقطابها من المتصوفة، سواء من وُلدوا على أرضها، أو من مَرُّوا بها فى طريقهم إلى الحجِّ، أو من مكثُوا فيها بضع سنوات من أعمارهم، ولكنَّ الحال تبدَّلت واختلفت مع هبُوب رياح المذاهب السلفية المُتشدِّدة، وبروز الجماعات الدينية المُتطرفة والمُوغلة فى سفك الدماء، وتكفير الناس والدولة، وإطلاق يد جماعة الإخوان، حتى تمكَّنت من مفاصل الحياة جميعها، وصار لها ذراعٌ طويلة تضرب وتنخُر فى كل شأن.
وكل طائفة من هذه الطوائف أرادت بهمَّة ودأبٍ أن تطرُد الصوفيين من الساحة، فعمدت إلى تكفيرهم ومحاربتهم بدعم خارجيٍّ من دولٍ ترى فى التصوف كُفرًا، وتريد تسييد مذهبها الذى لا محل له بين المذاهب الدينية التى يعرفها المسلمون فى العالم، وتحضُّ على هدم مقامات أقطاب التصوف، وتدمير مقابر الأولياء، بحيث لا يكون فى المشهد الدينى- الذى هو أساسًا سياسى، ولا يزيد على كونه صراعًا على السلطة- غير الإخوان والسلفيين، ومن دار فى فلكهم، ومن ثم انتشر الدم، وبرزت إلى السطح جرائم الاغتيالات، وقتل السُيَّاح، وضرب المدارس، وسكب مياه النار على النساء فى الشوارع ؛ لأن لباسهن ليس شرعيًّا، ولأنهن تاركات شعورهن تنسدل على أكتافهن، وسرقة محلات الذهب، والنيْل من الأقباط، ومُهاجمة الكنائس، واغتيال الكُتَّاب والمُفكرين ممن لهم آراء أخرى تناهض هؤلاء الأدعياء الذين نصَّبوا أنفسهم أوصياء على الدين، وحُماة العقيدة، ونوَّاب الله، وأصحاب التوكيل الوحيد من السماء، والوسطاء الرسميين بين العبد وربه.
ورأينا الأزهر والأوقاف ودور النشر تمتنع فى أغلبها عن نشر كُتب التصوف، بل إن هناك دورًا للنشر، كانت تأخذ دعمًا سخيًّا من إحدى الدول مُقابل ألا تنشرَ كُتبًا للتصوف، إلى حدِّ أن هذه الدار، ارتكبت جريمةً لا تُغتفر، حيث امتنعتْ عن تسليم أصول الكتب التى لديها حول التصوف، ومنها كتبٌ مُترجمة من الفرنسية إلى العربية، أنفق أصحابها سنواتٍ من أعمارهم فى الاشتغال عليها، وكان رد الدار أنها فُقدتْ وضاعت، ولم يكن المؤلفون وقتذاك لديهم نسخٌ أخرى كعادة هذه الأيام، حيث وسائل التكنولوجيا الحديثة فى الطباعة.
الموالد فى مصر لا تكلِّف الدولة مليمًا واحدًا، وليست خطرًا على الأمن الوطنى أو الأمن القومى، وما التجمعات فيها سوى تجمُّعٍ للأحباب والمُريدين الذين يبحثون عن الفناء فى الذات الإلهية، هم وقُود العشق الإلهى، وليسوا قتلةً ولا سفَّاكى دماء، أنقياء أتقياء، سمْتُهم النقاء وصفاء الروح.
وليلة المولد ليست عُطلةً رسميةً، كما أن الأرض التى تُقام عليها الموالد هبةٌ من أهل كل قرية، ولكن مع زحف التشدُّد الدينى على أرض مصر، اغتصبت ساحاتُ وميادين وأراضى الموالد.
وفى حوار أجراه معى فى مونتريال «كلود ليفيك» نُشر 21 من أكتوبر 2013 بجريدة لودوفوار الكندية بلسانٍ فرنسيٍّ، وهى من أشهر وأكبر الصحف فى كندا، وقد ترجم فقرات من الحوار إلى اللغة العربية الشاعر والناقد الدكتور وليد الخشاب أستاذ الأدب بجامعة تورونتو الكندية قلتُ: «إن المتصوف كائن منفتح على العالم، يقبل الديانات كافة. وكما قال الشيخ الأكبر والصوفى المسلم العظيم، ابن عربى، «الحب دينى وإيمانى».
«المتصوفة مسالمون، يحبون الحياة والعشق، ولا يمارسون السياسة». إلا أن هذه السمة لم تجنبهم ويلات الاضطهاد على مر العصور. وهم يشكلون الأغلبية فى العديد من البلاد الإسلامية، ومنها مصر، لكن «تم إسكات أصواتهم».
يؤسفنى أن أقول إن الغرب لا يحتفظ (من العالم الإسلامى) إلا بصورة المتطرفين. يظن أن هذا العالم لا يقدم سوى المجرمين
هذا جزءٌ من حوارى، لكننى قلتُ أيضًا لمحاورى إن الغرب وأمريكا دائما ما يقدمان الدعم المادى والمعنوى لكل الجماعات الدينية المتشددة ولم نرهما مرةً واحدةً يدعمان المُتصوفة أو التصوف، أو حتى ينفق مالا قليلا لنشر كتابٍ صوفيٍّ، لأنه يدرك أن التصوف صورة مشرقة للإسلام، وهو لا يريد لهذه الصورة أن تنتشر وتتعمَّق فى نفوس العالم، الغرب لا يريد ابن عربى (558 هـ 1164م - 638هـ - 1240م) آخر، ولا جلال الدين الرومى (604 هـ - 672 هـ = 1207 - 1273 م) آخر، لأنهما أبرز أنموذجين يدلان على سماحة واعتدال الدين الإسلامى.
الموالد كما شهدتُها ومارستُ الذِكْر فيها، تعبيرٌ عن فرح القلب بالحب الذى يُعمِّر الأرواح، ومع ذلك اعتادت الدولة المصرية دون سببٍ واضحٍ على مدى قرنٍ من الزمان أن تضحِّى بقيم وتقاليد هذه الموالد بالمنع لا بالمنح والتصريح، حتى رأينا المصريين يزدادون خسارةً مع استفحال وتمدد إسلام الصحراء وآسيا (ممارسة وملبسا)، حيث اعتادت كسر خاطر المُحبين، وقتل الفرحة عند المُريدين من بسطاء الناس وفقرائهم وعامتهم والذين تركوا قُراهم ومدنهم وأتوا للاحتفال بالمولد، ومن ثم هناك احتقانٌ مدفونٌ فى صدُور الذين حُرموا من الموالد، لأن الدولة خذلتهم أيام حكم محمد حسنى مبارك، ولم تؤازرهم يومًا فى صراعهم مع السلفيين والإخوان وطوائف ومِلَل الجماعات الدينية، حيث غابت السعادة مع مُهاجمة الموالد وحرقها وتخريبها وتدميرها، وهى عندى عادة مصرية أصيلة ومُحبَّبة وخاصة، وتشير إلى محبة المصريين للتصوف، ولآل البيت دون تزمُّتٍ أو ادَّعاء، والموالد كنزٌ من كنوز مصر وثرواتها، فكيف لها أن تُلغى وتُشطب من تاريخ مصر الحديث، فلا شك أن هناك تضييقًا على من يتولون إقامة الموالد، ناهيك عن الخسارة الروحية.
لا أريد أن يقول لى أحد إن الموالد ممنوعة بأمر من الدولة المصرية، وأن الفرح بطقسٍ كهذا صار عادةً ذميمةً، وأن الموالد ما هى إلا بدعة ومن يرتادها كافر وزنديق وخارج على الإسلام، إلا إذا كان من يتولَّى الأمور سلفيون ودواعش وإخوان وجماعات دينية.
شعب الموالد، شعب وديع ومُحب وودود، لا يحمل فى يديه سلاحًا، ولا يمارس شغبًا، ولا يخرِّب مُنشأة، ولا يخلُق اضطرابات ما فى أى مكان يكون فيه.
المُولد حريةٌ وبهجةٌ وتجارةٌ رابحةٌ لكل من يشارك فيه.