أتصور أن ميزان العدالة يقتضى تعديل القوانين الحالية، بما لا يجعل الاستقالة فقط هى عقوبة القاضى المرتشى، أيا كانت نوع الرشوة، مادية، أو جنسية، أو بأى شكل من الأشكال، بل أرى ما هو أبعد من ذلك، وهو أنه لا يجب أبدا أن تكون عقوبة القاضى المرتشى، هى نفس عقوبة أى موظف آخر فى الدولة، المفترض أن عقوبة القاضى أقسى بكثير، لأسباب عديدة، وبذلك فإن ما يحدث الآن من الاكتفاء بكتابة استقالة، هو إجراء فى حد ذاته يحمل تمييزا عنصريا واضحا فى المجتمع الواحد، وإلا لماذا لا يتم منح المواطن العادى هذا الحق؟
من جهة أخرى، لا أدرى كيف تقبل نقابة المحامين، انضمام القضاة المفصولين، أو المقالين، أو المستقيلين فى مثل هذه الظروف إليها، هم قد خرجوا من الخدمة لافتقادهم شرطا مهما، وهو الشرف، هل هذا الشرط ليس معمولا به فى نقابة المحامين مثلا، والعياذ بالله، المفترض أنه فى أى وظيفة من الوظائف، يحمل المتقدم ضمن ما يحمل من مسوغات التعيين ما يعرف بالفيش والتشبيه، وهو صحيفة الحالة الجنائية، كيف إذن ستتصرف النقابة حينما توقن أنها أمام حالة ملطخة بالعار، وليست مخلة بالشرف فقط، حتى ولو لم يكن ذلك مدونا بالصحيفة بصفة رسمية، أليست هذه الفضائح كافية؟
معلوماتنا الأولية عن القانون والقضاء، أن مهنة المحاماة، هى فى حد ذاتها قضاء، يصفونها بالقضاء الواقف، باعتبار أن قضاة المحكمة، قضاء جالس، أى أن مهنة المحاماة يجب أن تكون امتدادا لإثبات الحق ونشر العدالة، أما وقد انضم إليها فاسدون من أى نوع، أو مبتزون على غرار هؤلاء الذين يقومون بكتابة بلاغات يومية، فى كل خلق الله، أملا فى ابتزازهم، فهى بذلك قد خرجت عن مسارها الطبيعى، أو الذى من المفترض أن تكون عليه.
من هنا يتضح بالفعل، أن المهنتين مُكملتان لبعضهما البعض، القاضى بكل بساطة، كان يمكن أن يكون محاميا، والعكس صحيح، ولذلك فهما معا فى حاجة إلى إعادة نظر شاملة، ربما بدءا من الالتحاق بكليات الحقوق، حتى لا تصبح هذه المهنة، أو تلك، سداحا مداحا، لكل من هب ودب، كما لا يجب بأى حال إسدال الستار على متابعة سلوكيات هذا أو ذاك، بمجرد أنه التحق بالمهنة، وبذلك تكون تحريات ما قبل الالتحاق بالمهنة قد انتهى دورها، مما جعل كل القضايا المثارة بهذا الشأن تقف خلفها بلاغات مجهولة، أو مبلغون مُضارون، بما يؤكد أنه لا توجد رقابة فعلية.
أعتقد أنه قد آن الأوان لأن تكون هناك سواء داخل وزارة العدل، أو داخل نقابة المحامين، إدارات أشبه بهيئات الرقابة، وأجهزة الأمن، وذلك لأن التفتيش القضائى يقتصر دوره على الأوراق والمستندات، إلا أنه لا يتابع الممارسات الشخصية خارج العمل، كما أن نقابة المحامين ليست لديها أى لجان من أى نوع لمتابعة أنواع لا حصر لها من الفساد، من أهمها هواة الشهرة، الذين أساءوا للمهنة أيما إساءة.
لم يتساءل أحد عن مصير مئات، بل آلاف القضايا التى أصدر الحكم فيها قاض، ثبت فيما بعد أنه مرتش، ما الذى يضمن أنه لم يرتش فى معظم هذه القضايا التى أصدر فيها أحكامه السابقة، وهل من حق المتقاضين التظلم لإعادة النظر فى هذه القضايا من جديد لمجرد الشبهة، أو لإحساسهم بالظلم، وماذا عن المحامى الذى زكمت أنوفنا رائحة فساده، أو اشتم موكله رائحة فساد من أى نوع، لا يستطيع أيضا إثباته؟
كل ذلك يؤكد أن قضية العدالة فى خطر، وقد كانت دائماً فى خطر، أما ومازال الخطر مستمرا، فإن السبيل الأول لمواجهته سوف يبدأ من الالتحاق بالجامعة، كما أسلفنا، لتندرج سنوات الدراسة هى الأخرى تحت طائلة الرقابة، وذلك لأن الطالب الذى حاول الغش فى الامتحان، بالتأكيد لا يجوز له أن يعتلى منصة القضاء فى يوم من الأيام، ولا حتى الاشتغال بمهنة المحاماة، كما هو الحال بالنسبة للطالب الذى ثبت تعاطيه للمخدرات، أو الذى سلك سلوكا مشينا من أى نوع خلال سنوات الدراسة، أو الذى تورط فى أعمال إرهابية، وبالتالى فإن عملية التنقية المبكرة هذه، سوف تصب فى صالح هذه القضية التى أصبحت تؤرق المجتمع إلى حد كبير، وهى قضية تحقيق العدالة.