وهناك نوع من القطط تأكل وتستمع وتستمع.
تتمثل فى صنف من الوزراء يلجأون إلى النقل الحرفى من الكتب دون وعى أو حتى اهتمام بالواقع ولا بما يترتب على قرارهم من تداعيات قد تؤذى استقرار الوطن أو تؤدى إلى إفقار الفقراء طالما «أن الكتاب بيقول كده» وثمة قول إغريقى قديم «أنت لن تتعلم السباحة بمجرد قراءة الكتب» ولقد حرصت على التأكيد أنهم بعض الوزراء. فرئيس مجلس الوزراء يبذل أقصى ما يستطيع من جهد، ووزراء آخرون يتحركون ويفكرون ويعيشون الواقع ويحاولون أن يجدوا لمصر مخرجاً من أزمتها وهم يقرأون الكتب بعين ناقدة وليست مستسلمة، وبعضهم يدور ويدور محاولا فقط جذب الأنظار متمنيا أن ينال من الإعلام الذى لم يعد يصدقه أحد مزيداً من التلميع لعل بريق اللمعان يجذب أنظار من يريد هو رضاءهم انتظاراً لتغييرات ما بعد الانتخابات. لكن «القطط» التى أعنيها قرأت كتبا قديمة كانت مهمة فى مرحلة نشأة النظام الرأسمالى ثم أصبحت الآن وقد نالها ما نال الدواء الذى انتهت مدة صلاحيته فأصبح مضراً.
وهم يروجون لنظريات هذه الكتب وكأنها اكتشاف جديد ولا يهتمون بالأثر الاجتماعى المترتب على ما يفعلون، فإذا تعملق المستثمرون مصريين وأجانب ونالوا كل ما يريدون وأكثر فهذا بذاته يكفى، أما إذا تضرر الفقراء فمرارة هذا الدواء ضرورة للتنمية واحتمالها واجب وطنى.
ولا يدرك هؤلاء الوزراء أن وصفتهم المنقولة عن كتب تخلى عنها من كانوا يستخدمونها منذ قرن من السنين، وأنها حتى إن صلحت لبلدان أخرى فى زمن آخر فإنها قد لا تصلح لمصر ولزماننا. وفى مطلع القرن الماضى كان ثمة طبيب فيلسوف أطلق حكمة حكيمة تقول «نحن لا نعالج أمراضا وإنما نعالج مرضى». بمعنى أن لكل مريض، وأن لكل مجتمع ظروفا تختلف، بما يعنى ضرورة أن تتطابق أى حلول اقتصادية أو مجتمعية مع خصوصية مجتمعنا وأوضاع شعبه وتطلعاته وتأثير ثورتيه يناير ويونيو على هذه التطلعات وعلى طاقة احتماله. ثم إن بعض هؤلاء السادة تجريبيون ولا بأس من أن يجرب الإنسان فيما يملك أو فيما يخصه أما أن يجرب فى مصير وطن، أو بما يؤدى إلى تفجر اجتماعى يهز أركان هذا المصير فهذا شىء آخر. ولكى أوضح الأمر فإن وزيرين أو ثلاثة أغلقت عقولهم على نظريتين باليتين الأولى أن «التشغيل» هو الحل والتشغيل يعنى الخضوع المطلق للمستثمرين ولو على حساب حقوق العاملين. والثانية التساقط الذى يعنى تنازل المستثمر عن بعض ما يملك للمجتمع وهو ما يتطلب مشاعر إنسانية ووطنية لدى الرأسمالى لكن رأسماليينا فى كثير من الأحيان مشاعرهم تمضى باتجاه معاكس، وهكذا فهم يجربون فينا دواء انتهت صلاحيته وهو أصلا ليس دواء بل بلاء لكنهم يمضون بلا تردد فيما يزعمون أنه سيحقق نتائج مبهرة. وهذه «القطط» لا تستمع لنصح أو لنقد أو لتحذير، والذى سيضار هو التوازن المجتمعى الذى لا يقوم ولن يقوم بل ويستحيل أن يقوم، إلا بالنظر العادل والعاقل لإعادة توزيع ثمار الدخل القومى توزيعاً عادلاً. ومع وهم خاطئ تستمر القطط تأكل وتستمع ولا تصغى ولا تهتم فهى مطمئنة أن العصا لن تضربهم إلا بعد انتخابات النواب وتشكيل حكومة جديدة يراهنون على البقاء فيها عبر تحالف المليارديرات والمتأسلمين. وهناك وياللدهشة وزراء يتخذون قرارات مصيرية من دماغهم. فالوزير الذى قرر وقف استيراد القطن (والذى لا أعرف إن كان قراراً صائبا أم لا) أخذ قراره من دماغه، والذى ألغى القرار ألغاه أيضاً من دماغه. وكأن الوطن مجرد سجادة يتمشى عليها معاليه وهو يجهز لكى يمنحه البرلمان القادم بركة البقاء. وتبقى بعد ذلك مسألة استخدام تعبير العدل الاجتماعى دون انعكاس على الواقع. فقط أذكر أن يناير 2011 كان يصرخ «عيش– حرية– عدالة اجتماعية» ويتردد الشعار ليقول به الجميع دون أن يتوقف أحد ليحدد ماذا يعنى «العدل الاجتماعى». والحقيقة أن هذه مسألة إنسانية إذ يذوب المعنى الجوهرى بعد استخدامه المفرط وتكراره المتكرر من الجميع. كمثال كلنا نستخدم النقود هذه الأوراق الملونة بإتقان كى لا تزيف. فمن منا توقف أمام جوهر قوة الإبراء التى تكمن فى هذه الأوراق؟ كذلك تعبير «العدل الاجتماعى» كرره أنصاره كثيرا وكرره أعداؤه أكثر وأكثر حتى ذاب الجوهر الكامن فى اللفظ وأصبح فى نظر البعض أداة تحقيق للعدل فى توزيع ثمار الدخل القومى بينما يحاول الكثيرون مستثمرين ومسؤولين وإعلاميين ووزراء، كل هؤلاء يبذلون كل طاقاتهم لتحويل عبارة «العدل الاجتماعى إلى سراب» يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. والحل هو أن نستعيد المعنى الحقيقى الذى يجسد الحلم الحقيقى بالعدل وأن يحوله إلى سعى نحو التحقق الفعلى. ولست أريد أن أستعيد مخاوف جدية عن نتائج عدم تحقيق هذا الحلم.
وبعد يا سيدى الرئيس فحكايات مثل هذه القطط كثيرة ومريرة. فعذراً على إزعاجكم بها.