يكتسب مفهوم الأمن الجماعي أهمية خاصة في إطار المنظومة القانونية الدولية، ومن ثم فهو من أكثر جوانبها عرضة للتأثر بالتغيرات في هيكل النظام السياسي الدولي وهذا ما ظهر بشكل جلي في التطبيقات المختلفة للمفهوم والتي اختلفت وتطورت مع التغيرات في هيكل النظام العالمي.
جاءت أولى تطبيقات فكرة الأمن الجماعي في العلاقات الدولية من خلال تجربة عصبة الأمم، فقد كانت هي الفكرة التي استند إليها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في تصوره لعالم يسوده السلام، وتنتظم علاقاته من خلال عصبة الأمم. وفي ظل عصبة الأمم، جاءت الترتيبات المتعلقة بالأمن الجماعي متماشية مع طبيعة النظام الدولي في ذلك الحين والتى كانت الحرب مشرعة في إطارها باعتبارها إحدى طرق إدارة العلاقات الدولية ومن ثم فلم ينص عهد العصبة على تحريم الحرب بشكل قطعي وإنما اكتفى بوضع بعض القيود لتضييق نطاقها. وقد اتجه عهد العصبة إلى تحقيق السلم والأمن الدوليين من خلال بعض الوسائل التي يمكن إجمالها في اتجاهين:
أ) العمل على منع الحروب: وذلك من خلال مجموعة من الآليات من قبيل حل المنازعات بالوسائل السلمية، الضمان المتبادل، تخفيض التسليح، فضلا عن ربط المعاهدات الدولية بعهد العصبة.
ب) إجراءات مواجهة العدوان: وتتضمن الإجرات التي أقرها عهد العصبة في هذا السياق الجزاء الاقتصادي، الجزاء العسكري، إلى جانب الطرد من العضوية.
ولكن نظام عصبة الأمم فشل في تحقيق الأمن الجماعي وهو ما يرجع إلى مجموعة من الأسباب أهمها أن العصبة كانت تعتمد بشكل أساسي على إجماع الدول الأعضاء للموافقة على قراراتها وتوصياتها الهادفة إلى تحقيق الأمن الجماعي وهو ما لم يمكن تحقيقه بسبب المشاحنات والتوترات السياسية بين الدول الأعضاء، فضلا عن نظام العصبة ذاته والذي عانى مجموعة من المثالب لاسيما في ظل سيطرة النزعة الأوروبية على عضوية العصبة وغياب القوى العظمى عنها (إذ لم ينضم الاتحاد السوفيتي إلا في عام 1934، في حين لم تنضم الولايات المتحدة على الإطلاق)، وفتح الباب أمام الانسحاب من عضوية العصبة الأمر الذي أضعف كثيرا من روح التنظيم الدولي وقيامه على أساس وجود الجماعة وتكاتفها، إلى جانب افتقار العصبة إلى قوة عسكرية خاصة بها.
وقد تمت صياغة نظام الأمن الجماعي في إطار منظومة الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية وما شهدته هذه المرحلة من تفاؤل بطبيعة الدور الذي من الممكن أن تلعبه المنظمة الدولية. ومن ثم فقد حاول ميثاق الأمم المتحدة أن يضع تحت تصرف مجلس الأمن الدولي بصفته الجهاز المسؤول عن الإدارة المشتركة لنظام الأمن الجماعي الوسائل والإمكانيات والأطر المؤسسية الكفيلة بإدارة العمليات العسكرية الميدانية على نحو يكفل تحقيقها للنتائج المرجوة منها. وكان من أهم ما تضمنه الميثاق في هذا الإطار ما نصت عليه المادة 43 من تعهد جميع الدول الأعضاء بأن «يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن بناء على طلبه وطبقا لاتفاق أو اتفاقيات خاصة ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدولي ومن ذلك حق المرور»، كما أوكل الميثاق مهمة بحث الترتيبات المتعلقة بعدد هذه القوات وأنواعها وأماكنها ونوع المساعدات والتسهيلات التي تقدم إلى «لجنة أركان الحرب» التي تتكون من رؤساء أركان حرب الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي؛ أي أن هذه اللجنة أضحت هي المسئولة تحت إشراف مجلس الأمن عن التوجيه الاستراتيجي لهذه القوات.
بعبارة أخرى، حاول واضعو ميثاق الأمم المتحدة عند صياغته تجنب العديد من المثالب التي اعتورت التنظيم الدولي في تجربة عصبة الأمم لاسيما فيما يتعلق بفكرة الأمن الجماعي، ومن ثم نص ميثاق الأمم المتحدة على امتناع جميع أعضاء المنظمة عن استخدام أو التهديد باستخدام القوة في علاقاتهم الدولية، كذلك أناط الميثاق بمجلس الأمن الدولي مهمة تولي تبعات اختلال الأمن والسلم الدوليين وذلك وفقا لأحكام الفصل السابع من الميثاق والتى تجيز له استخدام القوة عند الضرورة لإعادة السلم والأمن الدوليين إلى نصابهما.
أي أن نظام الأمن الجماعي في إطار نظام هيئة الأمم المتحدة يقوم على دعامتين رئيسيتين، هما:
أ) حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية أو التهديد بها: وعلى الرغم من عدم الاتفاق على مفهوم القوة التي تشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين فهناك ما يشبه الاتفاق على أن المقصود بذلك هو القوة المسلحة على الرغم من وجود بعض الاتجاهات الفقهية التي تؤكد أن ذلك يشمل كذلك مختلف أشكال القسر والضغط السياسي والاقتصادي.
وتجدر الإشارة في هذا السياق أيضا أن الميثاق حدد بعض الاستثناءات أباح فيها استخدام القوة في العلاقات الدولية وهي حالات الدفاع عن النفس وتطبيق تدابير الأمن الجماعي وفقا لنصوص الفصل السابع من الميثاق.
ب) وجود تدابير جماعية يمكن اللجوء إليها في حالة حدوث العدوان: إذ يتمتع مجلس الأمن الدولي باعتباره الجهاز التنفيذي بالحق في اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لحفظ لسلم والأمن الدوليين ويجب على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة قبول قرارات المجلس وتنفيذها كما أن عليها الامتناع عن تقديم المساعدة لأية دول يقوم المجلس باتخاذ تدابير ضدها. وتنقسم الإجراءت التي يحق للمجلس اتخاذها في هذا السياق إلى نوعين:
إلا أن ظروف الحرب الباردة وما شهدته من تحول الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية إلى متنافسين في الحرب الباردة أدت إلى منع الأمم المتحدة عن الوصول لهدفها في تحقيق الأمن الجماعي، خاصة مع تحول مجلس الأمن الدولي إلى إحدى أدوات الصراع بين قطبي الحرب الباردة وعجزه عن التصرف في النزاعات العديدة التي شهدها المجتمع الدولي بسبب إسراف أعضائه الدائمين في استخدام حق النقض «الفيتو»، ومن ثم فقد كان إعمال نظام الأمن الجماعي في مرحلة الحرب الباردة رهنا بمعطياتها التي فرضت العديد من القيود وحددت من فرص تفعيل هذا النظام في ظل حالة الاستقطاب التي سيطرت على أجواء العلاقات الدولية في ذلك الحين. إذ تعقدت مهمة «لجنة أركان الحرب» فلم تتمكن الدول الأعضاء من الاتفاق على كيفية وضع المادة 43 موضع التطبيق، بل إن اللجنة ذاتها تجمدت تماما وأضحت دون دور أو وظيفة تمارسها. وعليه، فقد نظام الأمن الجماعي في الأمم المتحدة أحد أركانه الرئيسية بعد أن حرم من الآداة التي تكفل له مواجهة العدوان على أسس وقواعد ثابتة ومؤسسية.