برغم ضوضاء تقليل المتربصين أو تهويل المطبلين، وهما وجهان لعملة واحدة رديئة، يبقى أننا في يوم مصرى كبير، كبير بحساب التقصى والمعرفة وخبرة المعايشة أيضا، فلقد عشت ستة أشهر كاملة، وبشكل يكاد يكون يوميا، أنطلق في «لانش» بحرى بين بوغاز بورسعيد وآخر حدودها الجنوبية داخل المجرى الملاحى لقناة السويس، ثم أتيح لى أن أتفقد القناة كلها من بورسعيد حتى السويس على ظهر سفينة حاويات عملاقة. كان ذلك حين عملت طبيبا نائبا لتخصص الحميات والأمراض الوبائية في الحجر الصحى البحرى بقناة السويس. ومن ثم أزعم أننى أعرف ماذا تعنى هذه القناة، وماذا يعنى- لمصر وللبشرية- أن يزدوج مجراها.
ليس بالفؤوس وحدها حُفرت القناة
في بداية عملى في القناة، وفى فترات الراحة بين التنقل من سفينة إلى سفينة لفحصها وفحص مرضاها بغية منحها إذن العبور الصحى ضمن قافلة الشمال، كنت لا أرفع وجهى عن صفحة الموج، فأكاد أرى مئات آلاف المصريين من أجدادنا الذين سُخِّروا في حفر هذه الأعجوبة من أعاجيب الدنيا التي صنعها البشر، والتى لا تقل إدهاشا في يقينى عن بقية أعاجيب الدنيا السبع التي نمتلك من بينها الهرم الأكبر، وكانوا يرفعون وجوههم نحوى تحت الماء، صارخين بلا صوت، أشباه عراة، ناحلين، وإن لم يتخلوا عن طواقى الفلاحين وعمائم الصعايدة على رؤوسهم، وكاد تمثّلى لهم يتحول إلى هلاوس بصرية خاصة، وقد كنت أحفظ أو أكاد كتاب المؤرخ العظيم، سليل أسرة الموهوبين المنصورية، الدكتور عبدالعزيز الشناوى: «السخرة في حفر قناة السويس»، الزاخر بالآلام والأحزان وانتهاك الكثير من حقوق إنساننا المصرى البسيط، في ربقة حكام مستبدين قصار النظر وأجانب مستكبرين عنصريى النظرة.
ظل هذا دأبى حتى آن لى أن أرفع رأسى لأرى مجالا أوسع بعد أن زرت «ترسانة بورسعيد البحرية» على ضفة بورفؤاد، فبدأ أمامى إشراق القطاع المُغيَّب لدى عامتنا من تاريخ قناة السويس، لأن هذه الترسانة هي سليلة «ورشة بورسعيد» التي أقامتها شركة القناة مع بدء العمل في الحفر، وتطورت تطورا تاريخيا بعد إلغاء السخرة في 1 يونيو 1864، وهى قصة كبيرة أتوقف فيها عند مفردة بروز دور العلم والتقنية في شق هذه القناة، مع التنويه بأن ثمن هذا التطور العلمى والتقنى الذي قدمته للعالم ورشة قناة السويس كان مدفوعا من الغرامة التي قررها إمبراطور فرنسا نابليون الثالث على مصر جراء إلغائها للسخرة! وقد مثلت هذه الغرامة نصف ميزانية شركة قناة السويس «العالمية» آنذاك، ومن ثم أتاحت للشركة إغراء المخترعين والعلميين في أوروبا لتقديم كل ما يساعد في التعويض عن فقد سواعد المصريين وفؤوسهم ومقاطفهم بآلات ميكانيكية في الحفر والنقل، فبزغت أنوار «عصر الميكنة» في شق قناة السويس، ومنها إلى ميكنة الأعمال العامة والهندسة المدنية في العالم.
آنذاك، حين كنت أحلم بكتابة عمل أدبى من وحى تجربة عملى في القناة، ضمن أحلام كثيرة بددها كدح الحياة وتآكل الوقت، ظللت دؤوبا أُكوِّن مكتبة خاصة عن قناتنا وتاريخها وواقعها وآفاقها، حتى إننى عندما توقفت في باريس لعدة أيام في طريق رحلتى الصحفية الأخيرة إلى السنغال، مكثت أبحث في مكتبات باريس كما في مكتبات سور الأزبكية الفرنسى على ضفاف السين، عن كتب تتعلق بقصة قناة السويس، ووجدت ضمن ما وجدت كتابا أيقنت أنه متعلق بالجانب التقنى في حفرها، ترجم لى بعض أصدقائى ممن يجيدون الفرنسية بعض صفحاته المدهشة، ثم أسعدنى أن دار «عين للدراسات والعلوم الإنسانية والاجتماعية» ترجمت الكتاب ذاته بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة عام 2005، تحت عنوان «قناة السويس- المشروع والتنفيذ (1859- 1869)- دراسة في تاريخ الممارسات التقنية. تعريب د. عباس أبوغزالة.
هذا الكتاب كان خلاصة رسالة دكتوراه أعدتها مؤلفته الباحثة ناتالى مونتل، وقد حصلت بها على الدرجة العلمية، ونالت عنها جائزة الأكاديمية الفرنسية، وهو كتاب موضوعى، كما يجدر ببحث علمى حقيقى من فرنسية أمينة وشجاعة، فهى بقدر ما أرَّخت للعطاء الفرنسى العلمى والتقنى في حفر القناة، بقدر ما أدانت في الخاتمة، سلوك الإمبرياليات الغربية المزدوج تجاه البلدان المقهورة، حيث يقترن التحديث بالاستغلال، والكتاب يمثل فتحا في دراسات قناة السويس، ولفتا إلى جانبٍ تتجاهله الجهالة بحكم غيبة الثقافة العلمية، ومجافاة القدرة الفذة للعلم والتكنولوجيا كاجتهاد إنسانى قابل للانتقال والتوطين والنمو المتبادل بين الشعوب، والكتاب برغم تناوله لماضٍ يعود قرابة قرن ونصف القرن إلى الوراء، إلا أنه يُلقى بالكثير من الضوء على واقع يخصنا، هنا والآن، فيما يتعلق بالعلم والتقنية اللذين لم يكن ممكنا تجاهلهما في شق قناة السويس الجديدة، لأن تجاهلهما كان يعنى ببساطة ألا يتم إنجازها في تلك السنة عجيبة المخاطرة والاقتحام، والإنجاز.
أربعة أمثال قناة السويس القديمة
سأتوقف عند ملمح واحد من ملامح هذه الملحمة، وهو عملية الحفر المبتل، أو الحفر تحت الماء، أو الجَرْف، والمشهورة أكثر باسم التكريك Dredging، فبرغم تعدد أدوار وأبطال أعجوبة قناة السويس، قديمها وجديدها، يظل هذا التكريك أبرز أبطالها، وستنطق الأرقام حالا بما يعجز عنه بيان الألسنة، ففى حفر القناة الأم قُدِّر حجم الحفر بـ75 مليون متر مكعب، أنجز التكريك وحده 75% منها، أي ما يقارب 65 مليون متر مكعب، وفى قناة السويس الجديدة حفر التكريك 250 مليون متر مكعب منفردا، عَدَا ما أنجزه الحفر الجاف، وهو هائل أيضا. وهذه أرقام يستحيل التلاعب فيها، لأن عملية التكريك تحديدا قام بها تحالف لعدة شركات عالمية، إضافة لقطاع الكراكات بهيئة قناة السويس. إذن نحن نتكلم عن أربعة أمثال قناة السويس القديمة، أما سخافة ادعاء أنها مجرد تفريعة صغيرة، فهى دلالة تربص وضيع ومقيت، لأن ازدواج الممر الملاحى في قناة السويس كان من السفه أن يتم بحفر مجرى جديد كله يتجاهل نعمة وجود بحيرات وتفريعات صغيرة قائمة بالفعل ويسهل التوصيل بينها، فكان الأكثر حكمة أن يُستفاد من هذه التيسيرات في شق المسار الجديد، خاصة مع طموح توسيع وتعميق المسارين للوفاء بمتطلبات السفن العملاقة لعبور القناة في الاتجاهين دون انتظار وعطالة.
لقد كنا كحجر صحى في المجرى الملاحى، شأننا شأن كل القطاعات العاملة في القناة، نضطر للانتظار طويلا حتى يُكتمل خروج قافلة الجنوب القادمة من السويس إلى بور سعيد والمتجهة إلى عرض البحر المتوسط، وكان ذلك لا يمثل فقط مجرد إهدار وقت وجهد العاملين في القناة، وهم جيش متعدد التخصصات بالغة الحساسية، بل كان يزيد احتمال تسلل الأخطار من ثغرات الاحتشاد والاستعجال في الوفاء بمتطلبات قافلة سفن تعبر دون توقف تقريبا، ويكفى أن أتذكر من عملى كطبيب حجر صحى، كيف كنا نلاحق السفن الداخلة من البحر المتوسط بزورقنا السريع حتى نكتسب سرعة السفينة العابرة، وعندما يلتصق جانب الزورق ببدن السفينة نقفز للتشبث بالسلم المتحرك الذي يدليه لنا العاملون على ظهرها، فنصعد كأننا نركض إلى ارتفاع يطاول ارتفاع عمارة شاهقة، حتى نصل إلى سطحها وقمراتها وبرج قيادتها لنؤدى مهام عملنا متعجلين لنلحق بسفينة تالية، الشىء نفسه كان يحدث مع سائر قطاعات سلطات القناة، والأخطر بينها ما يتعلق بالجانب الأمنى، والذى كان على أيامنا يتضمن تهريب مخدرات وسموم وقوارض وغيرها، ويتذكر أبناء جيلى تلك الهجمة الوبائية التي باءت بنا جراء ما يُرجَّح أنه تسريب مُتعمَّد لنوع عملاق ومتوحش من الجرذان اجتاح خط القنال، وانتشر في قرى الدلتا وحقولها فيما بعد، وجشمنا كثيرا من الجهد والمال والخسائر حتى انقشع. والآن يمكننا تخيُّل مستجدات التهريب الأشنع من أسلحة وقنابل ومفخخات ومتفجرات المجرمين.
رب القلوب ورب الشعوب
بالطبع لدى تحفظاتى على أي تَسرُّع في إقامة أي مشاريع للتنمية، لكن حجم التوفيق في مشروع القناة الجديدة برغم تعجله، فاق أشد التوقعات تفاؤلا، لسبب أعتقد أنه فوق بشرى، ويتعلق بأن هذه القناة الجديدة اندفع في تلبية ندائها أغلب المصريين طيبى النوايا مخلصى السرائر، والمتحرقين شوقا إلى العيش بأمان وستر في وطنهم، فلم تخذلهم الأقدار، وهذا يجعلنى أضيف إلى قولنا السائر ربنا رب قلوب «ورب شعوب أيضا». فلم يخذل الله شعبنا في هذا المشروع، وكان العِلم حاضرا، ففى موضوع التكريك حدث أن رصد القمر الصناعى الأمريكى 8 landsat المخصص للمراقبة البيئية، في 2 مارس 2015، وجود مياه رشح من أحواض الترسيب التي يُنقل إليها الرمل المشبع بالماء بعد تكريكه، أي كشطه وشفطه من قاع المجرى المائى وسكبه في هذه الأحواض على البر، سواء عبر أنابيب موصولة بالكراكة العائمة في الماء أو بسفن نقل ذات مضخات قوية، وكان ذلك الماء المالح الراشح من أحواض الترسيب يعنى مشكلة كبيرة، ففيه تهديد للأرض الزراعية على جانب القناة، وفيه تأجيل وتقليص لخطط إعمار المساحات التي تسربت إليها هذه المياه المالحة، لكن الله لطف، ونجح علماؤنا وتقنيونا في معالجة الأمر بسرعة وكفاءة مدهشين، فعدَّلوا ميول أحواض الترسيب، وفتحوا للمياه التي رشحت من رمل التكريك قنوات للعودة إلى مجرى القناة، فأنجزوا نمطا من تجفيف مخلفات التكريك بسيطا وابتكاريا وسريعا، شهدت بنجاحه الصور الأحدث للقمر الصناعى الأمريكى نفسه في 24 يوليو 2015، فقد اختفت علامات ذلك الرشح.
رصيد كبير يسمح بالتفاؤل والمراجعة
بالمنطق الذي يحتمه العلم، سأظل ضد كل تسرع خاصة في مواضيع من نوع المفاعلات النووية لإنتاج الطاقة، لكننى وكلى دهشة من إرادة الأقدار وبصيرة الشعوب، أرى أن مشروع قناة السويس الجديدة التي هي جديدة بالفعل، فاق بتوفيقه أفضل السيناريوهات تفاؤلا كما اسلفت، وأصاب أهدافا عديدة بسهم واحد، لعلى أضيف إليها مما لم يبح به كثيرون، مشروع القناة الإسرائيلية المسمَّاة قناة البحرين (البحر الأحمرـ البحر الميت) الذي تغرى به إسرائيل غيرها، وهى تبطن ما تبطن من تجارة رابحة في مياه البحر المُحلاَّة والطاقة الناتجين عن هذا المشروع، لتعظِّيم سيطرتها على محيطها، ثم، وبعد أن يرتفع منسوب البحر الميت الذي أمعنَت في تمويته إسرائيل بنهبها لمياه الأنهار العربية التي تصب فيه، تفتح بينه وبين البحر المتوسط مجارٍ ملاحية لاختطاف دور قناة السويس. وأعتقد أن قناة السويس الجديدة قد أماتت هذا المخطط الإسرائيلى السيئ في مهده.
هذا يوم كبير إذن، ولنا أن نفرح فيه وبه نحتفى، دون مبالغة لا ضرورة لها ولا معنى. فالمعنى في الإنجاز يُغْنى. ولا يزال أمامنا الكثير، لكن بتفاؤل أكثر هذه المرة، وباستعداد للمراجعة الواجبة أكثر هذه المرة. وليحفظ الله مصر وأهلها من كل مجرم أثيم يحاول تكدير الفرحة في هذا اليوم الكبير من أيام الشعوب.