تساؤلات فى الحب

أيمن الجندي الأربعاء 05-08-2015 21:40

عرفتنى «هيام» من قبل أن أعرفها. جلست بجوارى فى مقعد القطار المتجه إلى القاهرة. وعرفتها من نظرتها القديمة التى لاح فيها ظل خجول من الليالى الخالية. كنا نتقابل على درج البناية فتحيينى بالاحترام اللائق، لكنها لم تكن تعرف أننى أراقبها بحرص وأعرف كل شىء عنها. أعرف ارتباكها الخجول وأحلامها الرقيقة المنسوجة بالدانتيلا، وأعرف أيضا قصة حبها مع «هيثم».

ردتنى ابتسامتها إلى اللحظة الحاضرة. كانت قد مرت عشرة أعوام وربما أكثر. والمُرَاهقة الخجولة تحولت إلى امرأة فى ذروة نضجها الأنثوى. وتبادلنا الأسئلة المعتادة وعرفت أنها تسكن الآن بالدقى. وعرفت أيضا أنها أم لطفلين! وأنها لا تعمل!

كانت مبتهجة حقا لرؤيتى بعد أن غادرتْ أسرتها العمارة. قالت وهى تميل برأسها إلى الخلف إن رؤيتى أسعدتها لأنها ذكرتها بأيامها الجميلة. ولعلنا فكرنا فى وقت واحد فى هيثم. زميلها فى المدرسة الذى يقطن فى آخر الشارع.

كنت شاهدا على قصة الحب الجميلة. ولكم جلست فى ظلام الشرفة أترقب اللقاء الليلى بين العاشقين. تخرج إلى الشرفة فى وقت محدد. ويكون هو فى الانتظار فتتلاقى العيون المتوهجة ويبتسم كلاهما. وأحيانا كان يلجآن للشفرة. بإطفاء النور وإيقاده عدة مرات يتبادلان رسائل محتشدة بالمعانى. لم يكن الجوال المحمول قد انتشر. كانت الأيام تحمل ظلا من العذوبة. ربما رحلت العذوبة مع الأيام وربما هى موجودة ولا أراها، وتستشعرها الأجيال الجديدة فحسب.

سألتها عن والديها وطلبت منها أن تبلغهما سلامى. وقررت أن أجازف فسألتها عن هيثم، فأجابتنى بإطراقة طويلة.

لم تكن تعلم بالتأكيد كم كانت قصة حبهما الخجولة مهمة لي! وكم أورقت الأغصان الخضراء فى شجرتى اليابسة، وكم لوّنت أيامى! طيلة عمرى أحتفى بالحب، وأنظر إليه بتهيّب. ويخامرنى يقين لا يقبل الشك أنه صلة روحية لا تنقطع حتى ولو بالبعد. وأن من أحببناه يوما يظل إلى آخر عمرنا له مكانة خاصة.

لذلك كان يزعجنى كثيرا أن أشاهد قصص الحب من حولى تنفصم ويصبح أطرافها كالغرباء بلا محبة ولا عداوة. بل لعلى كنت أرى أن العداوة أليق بنهاية الحب من اللا مبالاة القاتلة!

وأردتُ أن أختبر قناعاتى أمام هيام وهيثم. كنت أعرف جيدا أنهما لم يتزوجا. فرّقت الأيام بينهما لا أدرى لم! أجابت هيام بعد صمت: «لا أعرف أى شىء عنه». ناشدتها بعينى ألا تغضب. لكنى كنت أتوق إلى المعرفة. كنت مستعدا لأى شىء من أجل أن أجيب على سؤال عمرى.

قلت: «هل ما زلت تفكرين فيه أحيانا؟». ردتْ فى صدق: «نادرا ما يخطر ببالى. لقد مضى كل منا فى طريقه». هتفتُ متأثرا: «والحب الذى كان والذكريات؟ وقصاصات الورق، والنور الذى كان يوقد ويطفأ؟ والأغنيات الجميلة؟».

وخنقنى التأثر. كنت عاجزا عن فهم كيف يحب الإنسان بكل كيانه ثم يجرؤ أن يسلّم هذه المشاعر للعدم! هناك شىء خطأ لا أفهمه.

استطردت هيام فى بساطة مؤذية: «ارتبطتُ من بعده بشباب لكن كان النصيب مع زوجى عادل». قلتُ فى حزن مميت لم تشعر به: «إذاً فالموت نهاية نستحقها».

وهدأ القطار من سرعته إيذانا بدخول المحطة. وأخذنا من الحديث هدنة. وحتى وصول القطار لم أعد أفكر سوى فى الليالى الخالية. هيثم واقف بالانتظار، والنور يُوقد ويُطفأ؟ وهيام تبتسم فى فخر، ونسيم الليل يهب منعشا، والكروان يبارك الحب مجلجلا فى سماء المدينة.

elguindy62@hotmail.com