يعرف الجميع أبعاد الزمان الثلاثة، الماضى والحاضر والمستقبل. وفيها تتنوع الثقافة بل والوجود العربى كله. ويكاد يذكر الجميع التيار الإصلاحى ويمثله محمد عبده دون مؤسسه الأفغانى والذى كان أحد ملهمى الثورة العرابية. فقد كان أحمد عرابى أحد تلاميذه وقبل انهياره وتحوله إلى سلفية عند رشيد رضا ودعوته للإمامة أو الخلافة العظمى كرد فعل على الثورة الكمالية فى تركيا فى 1923 وإنهاء الخلافة ثم انهياره مرة أخرى كرد فعل على حياة السجون والمعتقلات بعد 1952 وتكفير المجتمع والدعوة إلى الخلافة من جديد عند الحركات الإسلامية الحديثة، داعش وغيرها، ورفض الدولة الوطنية. ولا يكاد يُذكر سيد قطب الأول الناقد الأدبى وروائى الأطفال والكاتب الاشتراكى فى «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» و«الرأسمالية والإسلام» و«المستقبل لهذا الدين». ولا يُذكر إلا سيد قطب فى مرحلته الأخيرة، «معالم فى الطريق» التى يكفر فيها المجتمع كرد فعل على آلام التعذيب فى السجون. ولا يكاد يُذكر مؤلفون إسلاميون آخرون على حافة التيار العلمانى مثل خالد محمد خالد فى «من هنا نبدأ».
وفى التيار الليبرالى يبرز طه حسين بحيث يطغى على كل من يشارك فى هذا التيار منذ تأسيسه على يد الطهطاوى حتى الليبرالية الحديثة التى لا يبرز فيها كاتب واحد يمكن أن يشار إليه. ولا يشار إلى ثورة 1919 وهى بنت الليبرالية المصرية التى حمل لواءها باشواتها وإقطاعيوها خوفا من كلمة ثورة التى أصبحت تعادل انقلابا منذ 1952 وحتى ثورة يناير 2011. يبرز طه حسين باعتباره الممثل الوحيد لهذا التيار. وتقام له التماثيل فى الجامعة وفى الطرقات. ولا يُذكر «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى أراد أن يجعلها قطعة من أوروبا. ولا يوجد من نادى بالحريات إلا طه حسين مع أنه يلمس التيار الإسلامى فى إسلامياته ابتداء من «محمد» مرورا بالفتنتين و«الشيخان»، وهو الأزهرى النشأة وإن كان فرنسى التكوين. والتيار العلمى يرجع إلى فرح أنطون وشبلى شميل حتى سلامة موسى فى حين أن أهم رواده وهو إسماعيل مظهر أنهى حياته بكتاب «الإسلام أبدا»، وزكى نجيب محمود بمجموعة «تجديد الفكر العربى». فالتيارات الثلاثة الإصلاحى والليبرالى والعلمى العلمانى تعود إلى الماضى كلما حاولت أن تعرض نفسها كنماذج للحاضر والمستقبل. فلا فرق بين محمد عبده وطه حسين وشبلى شميل من حيث نماذج فى الماضى دون تقديم جديد فى الحاضر من أجل المستقبل. بل إن التيار الإصلاحى يستطيع أن يمد جذوره فى الماضى البعيد حتى ابن تيمية فيتحول إلى نموذج سلفى. أما الليبرالية فمداها قصير منذ اتصالنا بالغرب الحديث. وكذلك التيار العلمى مداه قريب منذ تقليدنا للغرب فى حين أن العلم له أيضا جذوره فى الماضى البعيد عند البيرونى والحسن بن الهيثم والخوارزمى. فأصبح الفكر العربى كله سلفيا بمعنى البحث عن نموذج فى الماضى، محمد عبده، طه حسين، فرح أنطون.
فأين الحالة الراهنة للثقافة العربية وليس بالضرورة بالرجوع إلى الوراء، الإصلاحى عند محمد عبده، والليبرالى عند طه حسين، والعلمى عند شبلى شميل؟ أين تحليل الثقافة العربية المعاصرة دون الرجوع إلى الماضى القريب، محمد عبده أو إلى الماضى البعيد، ابن تيمية، وابن حنبل؟ أين تحليل الثقافة العربية فى اللحظة الراهنة دون الرجوع للمثقفين العرب فى الماضى؟ ألا يستطيع المثقف العربى تحليل الثقافة العربية فى الحاضر وهى فى طريقها إلى المستقبل دون التمسح بالمفكرين العرب فى الماضى ليبين مدى علمه بهم؟ فالاختلاف فى الشكل، الإسلام أو العلمانية، أو فى المصدر، الإسلام أو الغرب وهو الأهم فى الصراع على السلطة عندما يتحول التياران الفكريان إلى حزبين سياسيين.
يمكن للمفكر العربى المعاصر تحليل الثقافة العربية المعاصرة دون الرجوع إلى النماذج القديمة. يمكن وصف ظاهرة كبوة الإصلاح من جيل إلى جيل فى التيارات الثلاثة. فالجيل الرابع أقل إصلاحا، وأقل ليبرالية، وأقل علمية من الجيل الأول. يمكن رؤية الأشعرية السائدة حتى الجيل الرابع، وأن أحدا لم يجرؤ على أن يكون معتزليا يتبنى الأصول الخمسة ومركزها التوحيد والعدل وإعلان حرية الإرادة والحسن والقبح العقليين. لم يجرؤ أحد كما فعل الشاطبى إعلان قيام الشريعة على مقاصدها الخمسة ابتداء. لم يجرؤ أحد على إعلان أن العقل أساس النقل، وأن الحق متعدد وأنه لا توجد فرقة ناجية. لم يجرؤ أحد على الخروج من جبة الأشاعرة إلى فضاء المعتزلة كى يأتى جيل آخر ليخرج من فضاء المعتزلة إلى رحابة العالم الفسيح. لم يجرؤ أحد حتى الإعلان أنه فى العصر الحاضر، العقيدة ثورة، والنقل عن الآخر إبداع، وأن النص واقع، وأن الفناء بقاء، وأن النقل عقل. وبالنسبة لثقافة الآخر لم يستطع أحد حتى الآن تبنيها مع نقدها دون رفضها بدعوى «بوكوحرام» بل بأخذه موضع النقد وتأسيس علم «الاستغراب»، وتحول الغرب من مصدر للعلم إلى موضوع للعلم. لم يستطع أحد حتى الآن جعل هذه النماذج الثلاثة أسيرة طبقتها، الإصلاح للطبقة الشعبية، والليبرالية للطبقة الوسطى، والعلم للنخبة. ولماذا لم يتساءل أحد حتى الآن ولماذا ظلت هذه النماذج الثلاثة باقية على مدى عدة قرون دون أن يبرز من خلالها نموذج حديث هو النموذج العسكرى؟ هل هناك قوة واحدة مسيطرة عليها حولتها جميعا إلى نموذج واحد هو نموذج الاستبداد؟ فكيف نشأ الاستبداد تاريخيا حتى فى أشد النماذج عمقا فى التاريخ؟ هل هناك صلة بين الله والسلطان، بين الدين والسياسة، وكلاهما فى الباب العالى؟ كيف يمكن لهذه التيارات الثلاثة العمل سويا خاصة أنها نشأت يحاذى بعضها البعض بإسلاميات طه حسين وليبراليات العقاد؟ فالثقافة العربية متعددة الجوانب ولا يعادى بعضها بعضا كما هو الحال فى الغرب فى العداوة بين العلم والدين.
وبالنسبة للمستقبل تستطيع هذه التيارات الثلاثة أن توحد جهودها على تحقيق الأهداف العربية المشتركة مثل التحرر من الاستبداد وتحرير ما تبقى من احتلال الأوطان، فلسطين، والقضاء على الفقر من أجل تحقيق مبادئ العدالة والمساواة بين مشرق الوطن العربى ومغربه، شماله وجنوبه، وتنمية كافة أرجاء الوطن العربى، والاعتماد على الذات بدلا من الاعتماد على الخارج، والقضاء على كافة مظاهر التخلف دون تقليد للغرب أو الشرق بل إبداع نموذج التقدم العربى الخاص. هذا يمكن بالغوص فى أعماق الحاضر وتحديد خطة لتطوير الفكر العربى فى المستقبل. يمكن تحديد موانع التقدم فى الفكر العربى مثل الاستبداد واعتماده على التصور الرأسى للعالم فى كل شىء بين الأعلى والأدنى وليس التصور الأفقى بين الأمام والخلف، ويستبعد تصور المركز والأطراف. كل شىء له مركز وطرف. والمركز قمة الهرم والطرف قاعدته. أو يستبعد تصور الأنا والآخر. هو الأنا وكل شىء آخر هو الآخر. والأنا بالضرورة له أولوية على الآخر. يحتاج الفكر العربى إلى إضافة فعلية دون اللجوء إلى الماضى والاحتماء به.