تكون الفكرة جيدة بقدر استطاعتها خلق واقع جديد، وتكون ممتازة عندما يكون هذا الواقع قادرا على النمو والازدهار. ومشروع قناة السويس الجديدة تكمن أهميته فى أنه أثبت أن المصريين قادرون على الإنجاز الكبير عندما يُطلب منهم ذلك.
أهم عنصر فى هذا المشروع ليس العمل ليل نهار، بل القدرة على التعامل مع الزمن بطريقة جديدة علينا، فمن المعروف عنا أننا نتخذ موقفا عدائيا من الزمن. نحن لا نراه وسيلة لتحقيق شىء، بل نتعامل معه كعدو لابد من التخلص منه أو القضاء عليه. أريدك أن تلاحظ المصطلحات الخاصة بتعاملنا مع الزمن.. «قتل الوقت»، «إضاعة الوقت»، ولما كنا نحترم الشرعية فى كل ما نقوم به من أعمال، كان لابد لنا لاكتساب شرعية إضاعة الوقت، أن نُكَلَّف بعمل ما. وهنا يبدأ استمتاعنا بإضاعة الوقت. لا تغضب منى عندما أقول لك: نحن أصلا لا نحب الإنجاز إلا بوصفه الطريق الأمثل للتخلص من عبء الزمن.
وهناك مقاييس وأوزان لكل شىء على الأرض، وهناك وحدة للقياس، غير أن مقاييسنا نحن مختلفة عن بقية البشر. إلى الدرجة التى تدفعنا فى أحيان كثيرة للتخلى عن الدقائق والساعات ونستخدم مقياسا شهيرا هو «الشوية».. هاتيجى إمتى بإذن الله؟ هاجى بعد شوية.. فاضل كتير على الموضوع الفلانى؟ فاضل شوية. وهذا هو أيضا السبب فى شيوع تعبيرات ذات صلة من نوع: «لماذا لم ينته العمل فى المشروع الفلانى؟»، وتكون الإجابة: «كل شىء بأوان.. لسه ما آنش الأوان.. استنى لما يؤون الأوان».
ولأن البشر أذكياء أو بعضهم على الأقل، لذلك سنرى هذا البعض قام بتحويل إضاعة الوقت إلى بضاعة مربحة. كَلِّفْه بأن يبنى لك كوبرى.. ستمر الأعوام والعمل مستمر فى بناء الكوبرى، وفى كل عام سيطلب منك مبلغا إضافيا، لأن أسعار الخامات ارتفعت.
ووحدة القياس فى أى مشروع فى مصر عندما يكون أصحابه جادين تمام الجد هى العام. ولقد شاهد المصريون جميعا مشهدا يفسر تماما ما أقول.. هناك مستشفى شهير للقلب، زحف الخراب والبؤس على كل أرجائه بشكل يوجع القلب، وتحمس رئيس الجمهورية لإصلاحه، وسأل المسؤول المكلف بعملية الإصلاح: حاتخلصه بعد قد إيه؟
فوجئ الرجل بالسؤال، وتردد للحظات، ثم أجاب: بعد سنة يافندم؟
فصاح فيه رئيس الجمهورية: سنة..؟ شهر واحد، يخلص بعد شهر واحد.
وبالفعل انتهى العمل فى المستشفى على أكمل وجه بعد شهر واحد.
المسؤول عندما قال: بعد سنة، كان على يقين من أن إجابته ستسعد الرئيس وتسعد كل المصريين، لأن السنة هى أقل وحدة قياس عند المسؤولين وعندنا جميعا. غير أنه أُرغم على اعتماد مقياس آخر لم يكن يتصور وجوده هو الشهر.
لماذا كانت مقاييس الرئيس السيسى فى تقديره للزمن مختلفة عن العاملين فى نفس حكومته، وهذا ما تأكد فى موقفين وموقعين على الأقل. قناة السويس الجديدة، ومستشفى القلب؟
ليست لدىَّ إجابة جاهزة.. ولكنى أستطيع أن أقول على الأقل: يعمل الناس بدافعين لا ثالث لهما، الرغبة أو الرهبة.. يا ترى حضرتك مين فيهم؟