قد يكون العنوان متعجلاً عندما يبحث عما سوف يحدث بعد اكتمال إنجاز تفريعة قناة السويس الجديدة، التى بمعنى من المعانى تغير الجغرافيا المصرية، وربما جغرافية العالم، لأن طريقا جديدا قد أضيف إلى طرق التجارة العالمية. فما نعرفه أن تاريخ السادس من أغسطس، أى بعد يومين، قد صار تاريخا فارقا فى تحديد تاريخ مصر، حيث إنه فى هذا اليوم الفريد سوف يتم الإعلان عن مزيد من المشروعات الكبرى التى يُتصور أنها فى مجموعها سوف تشكل سبيلنا لنهضة مصرية كبرى. هى لحظة فريدة من نوعها.. نعم، ولكن إشكاليتها أنها تكررت فى مصر من قبل، ومن كان فى جيلنا سوف يعلم كيف تكوّن حلم كبير عند بناء السد العالى، وعندما تحول مجرى نهر النيل عام ١٩٦٤ جرى الأمر فى حضور قادة وزعماء، تماما مثل اللحظة التى نعيشها الآن. كان الرخاء القادم كبيرا، فأسعار الكهرباء سوف تهبط إلى «مليمات قليلة» (كان المليم عملة فى تلك الأيام، وهو واحد على عشرة من القرش الذى هو واحد على مائة من الجنيه)، ومعها سوف تزدهر الصناعة، والرقعة الزراعية سوف تتضاعف مع انتهاء رى الحياض، والنهر لن يكون وحشاً مرة أخرى بعد انتهاء عصور الفيضانات، باختصار سوف تكون مصر بلدا غنيا متعدد الموارد، وقويا إلى الدرجة التى قال فيها نجيب سرور: «تخدش بالظفر وجه السماء، وتضرب بالكف وجه الأسد»!.
ولماذا نبعد بعيدا فى الزمن فنرجع إلى عهد الستينيات من القرن الماضى، ففى شهر مارس الماضى حل علينا حلم كبير عندما انعقد المؤتمر الاقتصادى، وللحق لم يبخل علينا لا العالم ولا الأشقاء العرب بالحضور. وخلال أسبوع واحد هبطت علينا تقديرات للاستثمارات القادمة إلى مصر، قَدّرتها المجموعة المالية هيرميس بـ١٨٥ مليار دولار، أما وزير الاستثمار فقد كان متواضعا قليلا فكان القدر ١٧٥ مليار دولار، وللحق فإن رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب كان الأكثر واقعية عندما كان تقديره ٧٢.٥ مليار دولار. مثل هذه الأرقام إذا ما تم تحويلها إلى العملة المصرية تجعلنا نتحدث عن مقاربات من تريليونات الجنيهات تكفى وزيادة لتفجير طاقات مصرية لم تعرفها مصر من قبل. هذه المرة لم يستمر الحلم طويلا، لأنه باتت لدينا مشكلات تتعلق بتحويل مذكرات التفاهم إلى اتفاقات، والاتفاقات إلى تعاقدات، والتعاقدات إلى خطة عمل وتنفيذ. باختصار، لم يكن الجهاز البيروقراطى للدولة جاهزا للتعامل مع هذا القدر من الغنى، وما تحقق كان مجهودات خاصة قامت بها رئاسة الجمهورية والتى تمت مع شركات جنرال إلكتريك، وبريتش بتروليوم، وسيمنز، ومؤخرا نجح رئيس الوزراء فى إدخال شركة «إينى» فى مشروعات استثمارية طموحة فى مجال الغاز الطبيعى. لم يكن ذلك بالقليل، ولكنه لم يكن يلامس الأحلام، وأحيانا كان هناك ارتباك وتردد كما جرى مع مشروع المليون وحدة سكنية، وما حدث مع مشروع العاصمة الجديدة. لم نكن مستعدين، وربما مؤهلين، للتعامل مع فرص تاريخية.
هذه المرة فإن ليلة القدر سوف تنفتح مرة أخرى، والجديد فيها أنها لن تكون منفتحة على فرص خارجية فقط من خلال مشروع محور قناة السويس، وإنما على تجربة مصرية خالصة، ربما تكون هى السبيل لبناء مصر من جديد. فالمشروع الذى انتهى تواً وسوف نحتفل بإنجازه لم يكن موجودا منذ عام مضى، وكانت قناة السويس تسير مسيرتها الأولى التى سارت لسنوات طويلة، وعندما اقترب منها الفكر التنموى المصرى عام ١٩٩٦، وعام ٢٠٠٩، لم تكن هناك الإرادة الكافية لقبول هذه التحديات. هذه المرة جرى قبول التحدى، وكذلك أن تكون الاستجابة له خلال ثلث المدة المقررة وبدلا من ثلاث سنوات، تم الأمر فى سنة واحدة، والمدهش فى الأمر أنه كان بأقل تكلفة مما لو تم فى المدة التى وُضعت. الآن يمكن القول إنه لم تكن هناك مفاجأة، فالعمل يمكن أن يكون على ثلاث ورديات مصممة على العمل والإنتاج، فلهذا كان اختراع الكهرباء، كما أن معدات الحفر والتكريك لا تشكو، ولا تتذمر، بل إن استخدامها على مدار الساعة يجعل استخدامها اقتصاديا بأكثر من استخدامها لوردية واحدة. الدرس الأول الذى نتعلمه أن قدرة العمل المصرية والتكنولوجيا المتاحة يمكنها اختصار الأزمان إلى الثلث. هنا لابد أن نسأل: لماذا كان التخطيط قائما على ثلاث سنوات، ولماذا يقال لنا الآن إن مشروع محور قناة السويس سوف يتم على مرحلتين، أولاهما تنتهى عام ٢٠٣٠ وثانيتهما عام ٢٠٤٥؟ ما تعلمناه من مشروع قناة السويس أنه من الممكن للعديد من العمليات أن يتم بشكل متزامن ومتواز، والقضية فى أولها وآخرها قضية تمويل وإدارة وتكنولوجيا.
الدرس الثانى عرفناه أيضا، وهو أن الشعب المصرى لديه قدرات تمويلية غير مستغلة الاستغلال الصحيح. ليس فقط أن القطاع العائلى، ولا نقول الدولة أو الشركات الخاصة، لديه من المدخرات ما يتجاوز تريليون جنيه فى البنوك العامة فى مصر، ولكن هذا القدر ليس هو الوحيد، فهناك بنوك خاصة، وصناديق للتوفير، والبعض مكانها المفضل فى داخل البيوت. وهناك المصريون فى الخارج الذين قاموا بتحويل ١٩ مليار دولار فى العام المالى ٢٠١٢/ ٢٠١٣ إلى مصر، و٢٣.١ مليار دولار فى ٢٠١٣ /٢٠١٤، وفى العام المالى ٢٠١٤/ ٢٠١٥ بلغت التحويلات ١٦.٩ مليار دولار، أى قرابة ٦٠ مليار دولار خلال ثلاثة أعوام. وعندما طُلب من المصريين تمويل مشروع قناة السويس، كان المشروع واضحا، وطنيا واقتصاديا، وكانت الفائدة على شهادات الاستثمار فى المشروع تزيد على فائدة البنوك، فكانت الاستجابة بمقدار ٦٤ مليار جنيه خلال ثمانية أيام. القصة معروفة للغاية، والحقيقة أن الدهشة ينبغى لها ألا تكون لأنها حدثت، وإنما لأنها حدثت ومع ذلك لم يسع أحد خلال عام كامل لحدوثها مرة أخرى. كان واضحا منذ عام كامل مضى أن قضية التخلف فى مصر ليست قضية مالية أو قضية تمويل، وإنما هى توفير الفرص لرأس المال المصرى لكى يتحول إلى استثمارات على الأرض، بحيث لا تكون استثمارا قوميا واحدا بعد الآخر، وبينهما عدة سنوات أو عقود، وإنما يكون تمام الكمال فى القدرة على التنمية المتوازية والمتزامنة.
الدرس الثالث كان واضحا فى الإرادة والإدارة، ولاشك أن هناك علاقة بينهما، حتى فى الحروف التى تكوّن كلا منهما، الإرادة كانت سياسية ولها علاقة بشخص وقدرات رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسى، والإدارة كانت لها علاقة بهيئة قناة السويس وقيادتها التى أدارت المشروع كله بحرفية عالية كما لو كانت معركة حربية لابد من النصر فيها. ولكن إذا كان الغرض هو أن تكون التنمية المصرية مشروعا بعد مشروع، فإن هذه الطريقة ربما تكون مفيدة، أما إذا كانت التنمية مجمعا هائلا من المشروعات المتوازية والمتزامنة التى تغطى مصر كلها، فإن هيئة قناة السويس والهيئة الهندسية للقوات المسلحة سوف تتحمل أكثر من طاقتها بكثير. ما نحتاجه هو تعبئة كل القدرات الاستثمارية المصرية والعربية والعالمية، لكى نخرج مصر من التخلف إلى التقدم، ومن الفقر إلى الغنى.
والحديث دائما متصل!