يجب أن نساير الظروف التي نعيش فيها!
تلك كانت آخر كلماته البشرية، قبل أن يتحول معلم الأجيال إلى «خرتيت»
قبل 24 ساعة فقط شاهده «بيرانجيه» في مكتب رئيسه في العمل السيد «بابيون»، بحضور أستاذ القانون «دودار»، والسكرتيرة الحسناء «ديزي»
كانوا جميعا مشغولون بالنقاش حول ما عرضه في التليفزيون خالد وموسى وعيسى وميسا، وكل أولاد عباس، عن انتشار الخراتيت في أنحاء المدينة.
قالت ديزي إنها شاهدت واحدا بنفسها، ونظرت نحو «بيرانجيه» بهيام وهي تطلب رأيه، فينهرها السيد بابيون ويطلب من الموظفين الالتزام بنظام العمل، ثم يسأل عن سر غياب الموظف «بوف».
فجأة تقتحم زوجة بوف المكتب في هلع، وتخبرهم أنها جاءت لتعتذر عن غياب زوجها فقد سافر إلى الريف وأصيب بنزلة برد، وتعتذر عن اقتحامها للمكتب بهذه الطريقة لأن «خرتيتا» طاردها حتى هنا، وحاول أن يصعد وراءها الدرج الخشبي لكنه تحطم تحته، فلم يستطع اللحاق بها.
تنظر مدام بوف من النافذة ثم تطلق صرخة مفزعة: ياربي، هل هذا معقول؟!
يسألونها باهتمام: ماذا؟
تقول: إنه زوجي!.. بوف هو الخرتيت
وتنادي عليه بدلال: ماذا حدث لك يا حبيبي؟
يقترب من المدخل ويرد عليها بخوار عاطفي، فتقفز على ظهره وتمسك بقرنه الوحيد وهو ينطلق بها عبر الشارع ليختفيا في أحشاء المدينة.
لم تعد الظاهرة مجرد حيلة للتسلية الإعلامية، ومؤامرة مؤقتة لإلهاء الناس عن ظروف الحياة القاسية، فعندما اتصلت ديزي بإدارة الإطفاء بعد انهيار الدرج، اعتذروا لأنهم في حالة طوارئ، فلديهم الآن مئات البلاغات من شتى أنحاء المدينة لإنقاذ الناس من الخراتيت.
التليفزيون يذيع بيانات سريعة عن ارتفاع أعداد الخراتيت، في الصباح كانوا سبعة، وبعد ساعة ارتفع العدد إلى 17 ثم 32، ثم المئات، بل إن التحول كان يحدث على الهواء مباشرة.
لم يعد هناك شك في ظاهرة «الخرتتة»، مسؤولون يتحولون، ويذيعون بيانات تأييد للخراتيت التي خرجت في مسيرة حاشدة تتقدمها فرقة موسيقية، بينما سيطرت مسيرة أخرى على محطة الإذاعة، وتوالت بيانات التأييد، ربما كانت البداية في فندق فيرمونت، لكن تأييد «الدولة الخرتيتية» لم يتوقف، وظهرت أناشيد بالخوار الخرتيتي، وبدأ البشر القليلون يقتنعون أن الخراتيت كائنات لطيفة، بل إن صديقي بلال فضل أعلن دعمه للظاهرة، قبل أن يكتب مقالا مموها بعد ذلك عن الخرتتة يحاول أن يعدل فيه المواقف استنادا إلى قراءة ملتبسة بين الواقع ومسرحية يونسكو.
بلال بعيدا عن شطحاته (التي لا أنكرها عليه) مثقف كبير، لكن خريطة تحالفاته وعداواته لا تستند إلى ثقافته، بل إلى «مزاج دستوري» (نسبة إلى أسلوب صحيفة «الدستور» في الفرقعات الصحفية والنظرة الذاتية المستمدة من صحافة الجونزو في أمريكا)، فمثلا يقول بلال في مقاله إن «كل المراجع العلمية تجمع على أن الخرتيت مُبتلى بقصر النظر، لذلك يهاجم قبل أن يتبين، فهو قصير النظر، ما يجعله أحيانا يدهس صغاره وهو يدافع عن نفسه».
كانت هذه النقطة هي مضمون آخر رسالة أرسلتها لبلال قبل 4 سنوات، ولم أتلق عليها ردا، ربما لحفاظه على المودة والمحبة التي بيننا والتي تعطلت في السنوات الأخيرة، ربما بسسب تفشي وباء «الخرتتة»
قد يرى بلال (وله الحق أن يرى ما يشاء) أن 30 يونيو هي «الخرتتة»، وقد يرى غيره أن الظاهرة تنطبق أكثر (حسب كلامه هو نفسه) على أولئك الذين يدهسون صغارهم ويصفونهم في طوابير الموت بحجة الدفاع عن الشرعية المفقودة.
على أي حال، هذه ملاحظة عابرة في حديثنا عن الخراتيت، لأنها لا تقتصر على نظام حكم معين، ولا على زمن دون سواه، وربما كان الوباء قديما وممتدا، فلا تترك مرآتك من يدك، وغدا نعود.
tamahi@hotmail.com