عم أحمد كان فلاحا بسيطا، بلغ من العمر سن المعاش المتعارف عليه لدينا، لم يكن يحمل مؤهلات، فقط كان يجيد القراءة والكتابة، وبعض المصطلحات الأجنبية، إلا أنه كان قارئا من الطراز الأول، فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى، كان يقرأ مجلات «الفيصل»، و«الدوحة»، و«العربى»، وأيضا «روزاليوسف»، و«الصياد»، و«الشبكة»، لم أتفاعل حينذاك مع وجهة نظره وهو يقترح على الرئيس مبارك، فى رسالة بريدية مطولة، التواصل مع حكومة المحافظين فى بريطانيا، برئاسة مارجريت تاتشر، بهدف حجز هذه الحكومة بكامل وزرائها، حتى إذا انتهت مدتها هناك بعد عدة أسابيع، استعانت بهم مصر، سواء على شكل وزراء، أو على الأقل خبراء، حتى لا يعتبر أحد ذلك عودة لزمن الاحتلال، على حد قوله، المهم أن تستفيد مصر من كل هؤلاء الوزراء مجتمعين، كل فى تخصصه، على أى نحو.
ودارت حوارات الحضور مع الرجل، الله يرحمه، حول ما إذا كان هؤلاء الوزراء الإنجليز من الممكن أن يوافقوا على ذلك من عدمه، وحول ما إذا كان الرئيس مبارك يمكن أن يقبل بهذا الاقتراح، وحول ما إذا كان الشعب يمكن أن يستسيغ هذا النوع من القرارات غير المألوفة، وحول رواتبهم ومكافآتهم، وحول ما إذا كانت الدولة سوف توفر لهم البيئة الخصبة للعمل والإنجاز، وحول ما إذا كان البعض لن ينظر إليهم على أنهم أعداء، انطلاقا من نظرية المؤامرة السائدة فى ثقافتنا بصفة عامة، وما إذا كان البعض سوف يعتبر هذا الإجراء عودة لزمن الاحتلال، وهكذا ربما تمت مناقشة القضية من كل جوانبها، لدرجة أن البعض تندر على الرجل بعدم المبيت فى منزله الأيام المقبلة، فربما يتقرر اعتقاله، وأن الموضوع سوف يتوقف عند هذا الحد.
تذكرت هذه القضية التى أعتبرها الآن مهمة جدا، خلال مناقشات جمعتنى قبل أيام، مع المهندس صلاح دياب، رجل الأعمال المعروف، قال فيها إن الدكتور يوسف بطرس غالى، الوزير المصرى السابق، أخبره ذات يوم بأنه كان يستعين بمكاتب خبرة أجنبية، لنقل التجارب الناجحة فى الدول الأخرى إلى مصر، ومن بينها قانون الضريبة العقارية، الذى استعان فيه بخبراء بريطانيين فى هذا الشأن، وإنه- الدكتور غالى- لا يدَّعِى أنه يفهم فى كل كبيرة وصغيرة، بل هو دائماً يؤكد ذلك، واسترسل المهندس صلاح متسائلا: «لماذا لا نستعين بخبرة الشيخ محمد بن راشد فى دبى؟ فرددت بأن نجاح محمد بن راشد يعود بالأساس إلى الاستعانة بالخبراء فى كل المجالات، ويحصلون هناك على فرصهم كاملة فى الإبداع، بمعنى أنه تتم إزالة كل المعوقات الإدارية وغير الإدارية من أمامهم أيا كانت، ومن مواصفات «بن راشد» أنه مستمع جيد، هو فقط يحلم، ويدعو الآخرين إلى بحث كيفية تنفيذ الحلم.
بالفعل، نحن فى حاجة إلى من يحلم، لا يصدر وعودا، أو يتحدث كثيرا بلا جدوى، فقط نرى التنفيذ على أرض الواقع، نرى مشروعات حقيقية تتحدث عن نفسها، نرى العالم وهو يتحدث عنا، نرى البطالة وهى تتراجع، نرى التضخم كذلك، نرى العملة المحلية وهى تلتقط أنفاسها، نرى الاقتصاد ينتعش، نرى التعليم يتطور، حينذاك سوف يتحدث الجميع، بدلا من أن يتحدث شخص واحد، والجميع يتهامزون، ويتغامزون.
اقتراح عم أحمد فى القرن الماضى جدير بالدراسة فى هذا القرن، وتجربة محمد بن راشد التى بدأها فى الإمارات خلال القرن الماضى جديرة بالدراسة أيضا لدينا فى هذا القرن، وتجربة المهندس صلاح دياب الناجحة فى القرن الماضى مع الاستثمار والأعمال، والتى استعان فيها أيضا، على حد قوله، بخبراء فى المجالات المختلفة، جديرة بالتعامل معها فى هذا القرن.
لماذا أصبحنا نرى الآن أننا نجيد فى كل شىء، ونفهم فى أى شىء، ولماذا مازلنا نعتقد أن التمصير هو الوطنية، حتى لو كان ذلك على حساب العمل وجودة الإنتاج، ولماذا أصبح كل قائد عمل فى موقعه يعتقد أنه أكثر دراية ممن حوله، وعلى الجميع تنفيذ الأوامر وفقط، وكأننا فى ميدان حرب؟ مازال هناك مَن لم يستطيعوا الفصل بين المهام المدنية والعسكرية، ميدان الإنتاج، وميدان المعركة، مازال هناك حتى الآن، فى القرن الواحد والعشرين، مَن لا يؤمنون بالشورى، بالرأى الآخر، ربما بوجود برلمان، وتلك كارثة، لا شك فى ذلك.
وإذا أخذنا فى الاعتبار أن معظم خبرائنا قد هجروا البلاد إلى مجتمعات أخرى يجيدون فيها الآن، كما أن أعدادا هائلة من المتواجدين فى الداخل لم تستوعبهم الدولة فى تخصصاتهم كما يجب، ولم تُتَح لهم فرصة الإبداع والتميز، أضف إلى ذلك تأثير الأوضاع السياسية والاجتماعية والأمنية على البعض الآخر، فماذا تبقى إذن، وكيف يمكن أن ننشد تطورا من أى نوع؟ الأوضاع فى حاجة إلى طريقة تفكير جديدة، تستوعب خبرات الداخل والخارج فى آن واحد، وتتعامل مع الخبرات الأجنبية كلما اقتضت الضرورة دون مكابرة، وحين ذلك فقط، يمكن القول إننا قد وضعنا أقدامنا على أول الطريق، ليس طريق المجد، الذى كان ينشده عم أحمد، والذى سبقنا إليه كثيرون ممن كانوا فى أدنى درجات السلم، وإنما فقط طريق العمل والإنتاج.