لماذا قطع رأسه؟.. (الخرتيت -2)

جمال الجمل الأربعاء 29-07-2015 07:47

لم أعرف مشاعر الناقد السينمائي الكبير سمير فريد، عندما رأى اسمه في قائمة «الأكثر قراءة» بعد سنوات من الكتابة اليومية الجادة، لكنني أعرف مشاعر جلال أمين، ومحمد المخزنجي، وعبدالله السناوي، و...... علاء الديب!

فلا زلت أتذكر صيحة الديب «الاستهجانية» منذ سنوات وهو يعترف بحزن نبيل أنه ديناصور في طريقه للانقراض، كان مثل بيرانجيه في مسرحية «الخرتيت» يشعر بخطر تحول العالم، بسقوط العقل، بانهيار الثقافة، لكنه ظل يقدم «عصير الكتب»، لجمهور مشغول بقضية «سيب إيدي»، لكنه صمم راضيا على عدم التنازل عن إنسانيته وثقافته في عالم يحتقر الثقافة والإنسانية!

«الجمهور وحش مخيف».. هكذا قال يونسكو مؤلف «الخرتيت»، وهو يكشف عن الدافع الذي طارده عشرين عاما حتى يكتب مسرحيته الشهيرة.
كنت أتابع مقالات سمير فريد، ومعظمها عن فن شديد الجماهيرية (هو السينما)، لكن مؤشرات الترافيك البغيض كانت تهينني وتهين السينما والكتابة الجادة، فالخانات المخصصة لإعجاب القراء ومشاركة المقالات مهجورة، كما لو أن أحدا لم يعد يهتم بمثل هذه المتابعات الرصينة لفن السينما في العالم كله، أو بقضايا الفن والثقافة والسياسة التي يطرحها أحيانا!

فجأة أنصفني الجمهور وظهرت صورة سمير فريد في قائمة «الأكثر قراءة»، وسرعان ما تحول الإنصاف إلى خيبة أمل كبيرة عندما وقعت عيني على عنوان المقال: حقيقة زواج عمر الشريف من سهير رمزى!
هوه الموضوع كده؟... طيب!

كنت قد عالجت هذه الظاهرة في سلسلة مقالات نشرت في مارس 2010 بصحيفة «المصري اليوم» تحت عنوان ساخر «سر العلاقة بين جمال مبارك ونانسي عجرم»

كانت الزاوية التي اخترتها بعنوان «ثرثرة»، وكنت أطمح من خلالها لتقديم نوع من نقد الخطاب الإعلامي، وإضفاء نوع من التحليل والعمق البسيط لخطورة إحلال إعراءات الترويج محل الحقيقة، والاعتماد على الإلحاح الدعائي و«الزن على الودان» محل الفهم العقلاني، والتوسع في المحاكاة والتقليد على حساب الإبداع، وانتهاك الجدة والرصانة باعتبارهما جهامة وتكلس لصالح الاستظراف والتفكه حتى لو لم يحمل من شروط السخرية إلا الابتذال!

تعثرت الزاوية قبل أن ينتهي الربيع، وعندما وصلنا إلى شتاء العام نفسه (2010) كانت القصة قد خرجت من حدود الصحف والكتابة، إلى ميدان الحياة.. لقد احتشدت الجماهير في ميدان التحرير تطالب بالحرية والعدالة والحياة الكريمة، وعندما تأملت المشهد، شعرت بخوف عميق، حاولت أن اتجنبه أو أدفعه إلى هامش الشعور، فالمحاكاة تتفشى لتكتسح في طريقها «الفعل الإبداعي»، والشعارات تناسلت بطريقة عبثية مبتذلة خارج شروط الوعي الذي بدأ به آلاف الشباب حركتهم يوم الثلاثاء 25 يناير، تحولت «الصورة الجماهيرية» إلى «كرنفال».. سوق كبير يستعرض فيه كل زبون بضاعته، ولا مانع من أن يشكو، أو يعرض أوجاعه، أو يستعطف، أو ينادي عبر الميكرفون على طريقة «شجيع السيما» داعيا الجمهور لمشاركته في لعبته «ورينا القوة يا ابني انت وهوّ».
وثقت ما استطعت من شعارات وهتافت، وسلوك اجتماعي يعتمد على «الفرجة» حسب مفاهيم راؤول فانيجيم، وجي ديبور منظري ثورة الشباب في فرنسا عام 1968.

لم أكن غاضبا من ذلك الاكتساح الجماهيري، لأن «الزحام» أحد عوامل الإطاحة بأي «نظام»، وكنت ممن يتوقون لإطاحة ذلك النظام، أملا في مستقبل أفضل، وغضبا من واقع لم يعد مقبولا، وكنت قد كتبت قبلها متخوفا من غياب شرط الوعي في عملية التغيير، لكن الأمل كان أكبر من أي تقدير موضوعي، والمعلومات المتاحة لم تكن تكشف عن كل هذا الخواء والخراب والاهتراء الذي وصل إليه المجتمع عقلا وجسدا!

خلال أسابيع قليلة، ظهرت بوادر الكارثة، فالقوة التقليدية الباطشة استوعبت الحدث، وقررت بجميع أنواعها أن تتعامل مع الجمهور كمطية لتحقيق اغراض تبتعد كثيرا عن الأهداف التي حركت الجائعين للحرية والعدل قبل أن تحرك الجائعين للخبز في قاعدة الهرم والجائعين للسلطة في قمته.
هذا الجمهور المخيف، الذي أطاح بالوحش العجوز، تم ترويضه في جماعات تباينت حسب علاقته بالمروض، لكنه في أغلبه تحول إلى وسيلة تستخدمها إرادة أخرى.

هكذا فقد الجمهور إراداته، وبالتالي مساره نحو الأهداف التي خرج يطالب به، صار وحشا يمتلك قوة جبارة ويندفع بعنف في اتجاهات عشوائية، استجابة لاستفزازات واستثارات يقف خلفها المروضون المستفيدون.
تذكرت نظرية «زكي قدرة» وملخصها أن «إصبعه لما يوجعه لا يعالجه بل يقطعه»، لكن المأساة أن «وحش الجمهور» كان يطبق النظرية بعناد اكبر وتطرف أشد، فقطع رأسه، بحجة أن «النخبة فاسدة»، و«التعليم مابيأكلش عيش»، و«الإعلام كاذب»، والداخلية حرامية«، و»يسقط حكم العسكر«، و»هذا الفصيل عميل«، وذلك الفكر دخيل»، وأنت...، وهي...، وهو...

وهذا في معظمه صحيح، لكن لماذا لم يفكر الجمهور في العلاج والتصحيح والفرز، ألا يريد الشعب نخبة؟، ألا يريد تعليما؟، ألا يريد إعلاما وشرطة وجيش وحياة كاملة شاملة؟!

لماذا اخْضَّر الوجه، وتغضنت الجلود الغليظة، واخشَّن الصوت، وامتلأت النفوس بالعنف، ونبت في وسط الجبهة قرن وحيد قبيح للتناطح؟
هذا ما يحكيه لنا بيرانيجه غدا.

توضيح: كل الأسماء والحوادث والتشبيهات مجرد أمثلة فنية لتوضيح الفكرة الرئيسية، ولا يجب التعامل معها في ذاتها.

جمال الجمل
tamahi@hotmail.com