سنوات الانبهار والإفطار فى رمضان

صلاح منتصر الإثنين 27-07-2015 21:15

كان خريف ١٩٤٧ لفتى من مواليد ٦ أغسطس 1933 تاريخا فاصلا فى حياته، فمن دمياط التى بدأت فيها تعليمى وأنهيت السنة الثانية فى مدرسة دمياط الثانوية، وكان حلمى العمل فى صناعة الحلوى التى يعمل بها أفراد أسرة «تعيلب» الكريمة الذين تربيت بينهم، انتقلت إلى القاهرة فى مدرسة التوفيقية الثانوية، حيث كان والدى وأخى الأكبر يسكنان فى حى شبرا، وقد وجدت البيت الذى أصبحت أعيش فيه مليئا بالكتب والصحف والمجلات فجذبتنى القراءة والكتابة.

وبصورة لم أتوقعها تبخرت أحلام صناعة المشبك والبسبوسة، وجذبتنى أحلام جديدة من نجوم السينما الأجنبية الذين أصبحت أشاهد أفلامهم، وكان أول من جذبنى بوسامته وابتسامته الممثل الأمريكى «جلين فورد» (مات سنة 1906 عن 90 سنة)، لكن أهم حلم عشت فيه عشق الكتاب الذين قرأت لهم وسيطروا على تفكيرى. وكان من حظى أن تعرفت فى مدرسة التوفيقية على أول صديق لى فى القاهرة وهو الراحل العزيز أحمد بهجت، وكان مثلى من عشاق القراءة.. هو متيم بروايات يوسف السباعى: أرض النفاق وإنى راحلة واثنتا عشرة امرأة، وأنا معجب بقصص إبراهيم الوردانى. وقد تزاملت مع أحمد بهجت بعد ذلك فى كلية الحقوق، ثم فى العمل الصحفى، وإن كان قد بدأ فى دار روزا اليوسف بينما بدأت أنا فى دار أخبار اليوم، ثم بعد ذلك معا فى الأهرام.

وكانت سنوات القاهرة لواحد مثلى قادم من دمياط، المدينة المحدودة التى تبلغ أقصى وسائل التسلية فيها سينما يمكن دخولها مرة كل أسبوعين اسمها «اللبان»، أمرا مختلفا تماما رغم أن كل وسائل الاتصالات والتكنولوجيا وآلاف المخترعات الحديثة، وفى مقدمتها التليفزيون، لم تكن عرفتها مصر ولا العالم الذى كان خارجا لتوه من حرب عالمية فقد فيها نحو 50 مليونا عدا ما جرى من دمار. ومع ذلك كان كل شىء فى القاهرة يبدو لى مبهرا ومثيرا. الشوارع والمبانى والسيارات ودور السينما والمحال الفاخرة بمختلف أنواعها، سواء كانت تجارية أو مطاعم. وكان عاديا قراءة لافتات «للإيجار» فى كل شارع مما جعلنى أختار بسهولة- عندما أردت الاستقلال- السكن فى مصر الجديدة ثم فى وسط القاهرة. كما لم أعانِ فى وسائل المواصلات من ترام ومترو وأتوبيسات وسيارات تاكسى عند اللزوم.

وفى روض الفرج كانت لأحمد بهجت وأنا سهرات الفرجة على إسماعيل ياسين وشكوكو وثريا حلمى وعمر الجيزاوى وعبدالعزيز محمود وغيرهم من خلال مسرحين شهيرين: «ليلاس» و«روض الفرج». وكان هناك سطح لمطعم يطل عليهما لم يكن يصعب علينا التسلل إليه للفرجة مجانا على برامج المسرحين. أما قمة البورجوازية كما كنا نسميها فكانت فى سينما الأزبكية الصيفية بخمسة قروش متضمنة طبقا من الخشاف نتناوله ونحن جلوس على الموائد المتناثرة فى السينما!

لكن انبهارى بالقاهرة وصل مداه عندما أطل شهر رمضان. ففى دمياط تعودت رؤية المدينة طوال نهار الصيام، وقد أغلقت كل منافذ بيع الطعام والشراب دون أن يجرؤ واحد حتى إن كان مفطرا لأسباب خاصة أن يجاهر بإفطاره. كان لرمضان فى دمياط جو خاص وطبيعة خاصة مميزة، أما القاهرة فكانت المفاجأة أننى لم أجد فيها فرقا بين شهر رمضان وأى شهر آخر. فجميع محال الأكل والشرب مفتوحة وتمارس نشاطها طوال النهار وهى تبيع لزبائنها ما يأكلونه ويشربونه، هكذا دون أن يقول لهم واحد عيب اختشوا.

ولم أصدق أن الذى يحدث أمامى واقع حقيقى فأردت أن أجرب بنفسى. أنا الذى كنت أصوم الشهر دون تفكير وجدتنى أدخل محل الأمريكين فى عز النهار فى رمضان وأطلب طبق مهلبية. وقد انتظرت أن يزغر لى البائع لوماً أو يأتى واحد من خلفى ويصفعنى، ولكننى وجدت من حولى يضحكون ويأكلون ويشربون، فأكلت وشربت. ونسيت لبضع سنوات ما تعلمته فى دمياط. نعم أفطرت فى رمضان دون سبب سوى أن هناك من يفطر فى المدينة ولا يحاسبه أحد. وربما ساعد على ذلك غرور الشباب والسن الصغيرة التى يتصور صاحبها أنه أصبح فيها كبيرا يفعل عكس ما يجب.

ولم يكن الإفطار فى رمضان هو الخطأ الوحيد الذى ارتكبته فقد ارتكبت أخطاء أخرى، لكن من حسن الحظ أنها لم تستمر طويلا، وأن جذور الشجرة التى امتدت فى تربة دمياط، وإن كانت قد انحرفت قليلا إلا أنها لم تنكسر واستطاعت أن تردنى إلى ما يجب. ولهذا قلت وأقول إن أفضل ما فى داخلى تعلمته من دمياط، وإن أسوأ ما مررت به كان من القاهرة. لكن الذى أحزننى ما قاله لى صديقى عباس الطرابيلى الذى يزور دمياط كثيرا للاستمتاع بطواجن الحنشان والبط والسمك البورى، أدام الله عليه نعمة الحاجة وطبيخها، فقد ذكر لى أن دمياط القديمة لم تعد موجودة، وأن فى دمياط الحديثة يمكن فى نهار رمضان رؤية الزبائن فى المقاهى يمارسون حياتهم العادية وكأنهم فى شوال!.

salahmont@ahram.org.eg