فى علم السياسة كل شئ جائز ومباح , فعدو الأمس هو صديق اليوم وحليف الغد , السياسة لا تعرف المبادئ ولا تحترم الاخلاق , بل إنها أقرب إلى الفكر الميكافيللى الانتهازى الذى لا يعترف بالقيم ولا يتمسك بالمبادئ , إذا ما تعارضت مع مصالحه السياسية التى تتبلور من منطلق براجماتى صرف , السياسة ليس لها عدو دائم ولا صديق دائم , هى فن الممكن وتطويع المستحيل .
منذ أيام انشغلت وسائل الاعلام فى تحليل وتفنيد وتمحيص دلالات زيارة وفد حماس إلى السعودية برئاسة خالد مشعل رئيس المكتب السياسى للحركة والتى تعد زيارته الأولى للمملكة منذ أكثر من ثلاث سنوات , وأبعاد وأثار هذه الزيارة على العلاقات السعودية المصرية التى لوحظ فتورها بعد وفاة العاهل السعودى الملك عبدالله بن عبد العزيز تدريجيا , وما رشح من تسريبات حول ضغوط سعودية على مصر لانجاز اتفاق مصالحة مع الاخوان ينهى حالة الصراع القائم بينها وبين النظام فى مصر , غير أن الرفض الشعبى للمصالحة مع الاخوان كان بمثابة حائط الصد الأول لعدم اتمامها .
كما أن حالة الفتور والتوتر التى شابت العلاقة بين حركة حماس والسعودية منذ التوقيع على اتفاق مكة بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية برعاية سعودية , لفض الاشتباك والصراع والتناحر القائم بينهما على السلطة , لكن كتب له الفشل مثل العديد من الاتفاقات التى تلته واحتضنتها القاهرة فيما بعد , يجعل حالة التكهنات تتعاظم مع تضارب التصريحات وتناقضاتها سواء كانت الرسمية أو غير الرسمية المدافع منها عن الزيارة والمقلل من شأنها .
زيارة وفد حماس إلى السعودية لبست فى ظاهرها الثوب الدينى , كما صرح وزير الخارجية السعودى عادل بن أحمد الحبير , بأنها لم تخرج عن أداء مناسك العمرة وهذا حق لكل مواطن وأنها لن تؤثر على العلاقات الوثيقة بين مصر والسعودية !, لكن فى باطنها كانت تحمل ملفات سياسية وعلاقات استرتيجية مجمدة , جاءت لتصحيح ما أفسده الدهر فى العلاقة بين حركة حماس والسعودية وربما الضغط على مصر أيضا , بدليل سفر خالد مشعل إلى قطر بعد الزيارة مباشرة ولقاءه الشيخ يوسف القرضاوى فى بيته واطلاعه على تفاصيلها , وأيضا فى ضوء تبدل التحالفات وتغير السياسات والاستراتيجيات , منذ تولى الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم فى السعودية , مرورا بنشوب الحرب فى اليمن ضد الحوثيين , وانتهاءا بتوقيع ايران - العدو اللدود للسعودية - على الاتفاق النووى مع الولايات المتحدة ودول أوروبا , الأمر الذى لم يلق ترحيبا لدى السعودية ولا دول الخليج المهددة بخطر التمدد الايرانى فى المنطقة والتغول والسيطرة على تحالفات مع دول بعينها تشكل خطورة على المحور السنى الذى بدأ ينفرط عقده .
من الواضح أن السعودية أصبحت معنية باستمالة حركة حماس وتقريبها منها وتحييد علاقتها مع ايران إن لم يكن قطعها , فعندما يقابل العاهل السعودى أى طرف بعد فترة من القطيعة , فهذا يعنى وجود نية حقيقية لدى السعودية لمد جسور الثقة والتواصل من جديد وهو ما حدث مع حماس , ومن هذا المنطلق أعطت السعودية امتيازات سريعة لحماس , فقد أمر الملك سلمان باطلاق سراح معتقلى حماس فى سجون السعودية بعد ساعات من لقاءه بمشعل , كانوا معتقلين منذ ثلاث سنوات على خلفية جمعهم تبرعات للحركة والمقاومة فى غزة , فيما اعتقل بعضهم قبل نحو عام حينما أصدرت السعودية قرارا اعتبرت فيه جماعة الاخوان تنظيما ارهابيا , ويشاع أن وفد حماس طلب وساطة سعودية لوقف حكم الاعدام بحق الرئيس المعزول محمد مرسى رغم نفى الحركة ذلك وتأكيدها بعدم ربط علاقتها مع مصر بعلاقتها بأى دولة أخرى .
الامتياز السعودى لحماس جاء كرد سريع على الزيارة وهدفه الأساسى إبعادها عن أذرع إيران , وتحديدا بعد الانتصار الذى حققته طهران فى توقيع اتفاق يرفع الحظر عنها , خاصة إذا ما عرفنا أن خالد مشعل متحمس للمحور السعودى , وحرص على تأييده للسعودية فى صراعها ضد الحوثيين المدعوميين من إيران , لكن ورغم تأييد مشعل للمحور السعودى هناك قيادات مؤثرة فى حركة حماس تفضل المحور الايرانى المنافس , وأكبر مؤيديى طهران هم عناصر من الجناح العسكرى للحركة فى مقدمتهم محمد أبو ضيف قائد كتائب عز الدين القسام , وتأييده لايران يأتى من منطلق الرغبة فى الحصول على مساعدات مالية كبيرة لاعادة بناء القوة العسكرية لحركة حماس فى قطاع غزة ؟!
ربما تكشف الأيام المقبلة مدى التأثير المباشر من تحسن العلاقة بين حماس والسعودية , على توافق الحركة وقياداتها من جهة , ومن جهة أخرى على العلاقة المتوترة بينها وبين مصر , وما الذى يمكن أن يحدثه من فرق على أرض الواقع , ربما بفتح معبر رفح الحدودى مثلا , أو استئناف مفاوضات المصالحة المعلقة بين حماس والسلطة الفلسطينية التى ترعاها مصر منذ سنوات , وهذا يحدده مدى التزام حماس فعلا وليس قولا بأنها لاتتدخل فى الشأن الداخلى للدول العربية وبالذات مصر , وذلك بعدم دعم الارهابيين فى سيناء سواء كان امدادهم بالسلاح أو التدريب أو معالجتهم فى مستشفيات غزة أو تهريبهم عبر الأنفاق . كل ذلك مرهون بالوقت ومدى اتساق الأفعال بالأقوال إذا صدقت النوايا ؟! .