ثلاثة أمتار من السيسى!

مفيد فوزي الجمعة 24-07-2015 21:07

أعتزم الكتابة عن السيسى، لا نفاقاً ولا محاولة اقتراب ولا بحثاً بأى حال عن موقع على شطرنج السلطة ولا رغبة فى انفراد صحفى أو حوار تليفزيونى، فقد شبعت بعد 40 عاماً، أجرى الحوارات مع الرؤساء ورؤساء الوزراء والمحافظين والشخصيات العامة الفائزة بنوبل والمهزومة فى اليونسكو.

كان «حديث المدينة» هو كف الدولة الذى يطلعك على أحوالها، وإذا كنت مازلت وفيا للحوار الصحفى فى «المصرى اليوم»، فربما أقيس من خلاله درجة حماسى المهنى.. للمهنة، أعتزم الكتابة عن السيسى وقد جلست لأول مرة على بعد ثلاثة أمتار منه، هذه أول مرة أراه بوضوح واكتشف بشرته السمراء بلون طمى النيل، رأيته «كلوز» بلغة التليفزيون، حتى أملك أن أقوم وأصافحه لولا أنى أعرف قواعد الأمن ومتى الاقتراب من الرؤساء.

حدث أن دعيت مرة فى قصر القبة والسيسى يتسلم المسؤولية من عدلى منصور، كنت أجلس فى الصفوف الخلفية مع كتاب وفنانين ولم أره من قرب ولا زاحمت لكى أصل إلى صفوف أمامية، واحترمت التنظيم فلا أتعرض لكلمة قد تجرحنى وأنا المدرب على «التوتر الأمنى» فى مثل هذه الظروف واكتفيت برؤية السيسى على الشاشة العريضة.

ومرة أخرى دعيت إلى حفل فى الأوبرا وجلست مع بعض زملاء المهنة فى الصالة بينما كان الرئيس مع ضيفه الكبير «بوتن روسيا» فى البنوار الرئاسى أعلى الصالة، أحياناً كنت أرفع رأسى محاولاً اختلاس نظرة لرئيسى وضيفه غير العادى، ولا أغفل مشاعرى حين أتخيل - والخيال حصان الكاتب - كيف يتخاطبان عبر مترجم وهما السيسى وبوتن من مرجعية استخباراتية واحدة يومها، خرج السيسى وضيفه دون أن ألمحهما معاً، فقد بقينا فى الصالة حتى يغادر الموكب الرئاسى، ولم أره أيضاً فى جلساته المتعددة الكثيرة مع الإعلاميين ولا دعيت لأراه عن قرب، ولم أسع طيلة الأيام من 30 يونيو العظيم حتى الآن للوصول إليه ولا سعيت لأعرف أحداً مقرباً منه أو يعمل معه، فأنا لا أعرف من المسؤول عن ترتيب أوراقه ولا هو صرح لنا بفريقه الرئاسى، وربما لديه خوف من نمو سرطانى لمراكز القوة، وربما صرت أنا كخيل البلدية!

■ أتابع..

كان ذلك فى حفل إفطار الأسرة المصرية وكنت أول مرة أسمع عن «الأسرة المصرية»، دق جرس الموبايل ولاحظت أن الرقم خاص، كانت المتحدثة آية عطية تبلغنى أنها من رئاسة الجمهورية وقد شخطت فيها قائلاً «أعيدى ما تقولين» فقالت بصوت واضح: حضرتك والأستاذة حنان مدعوين لحفل إفطار فى فندق... رجاء الحضور الخامسة والنصف، تلقيت المعلومة خصوصاً أنى لم أتعود على صوت نسائى يتحدث باسم رئاسة الجمهورية وربما كان مقلباً حيث صار زماننا الترفيهى يعج بالمقالب، داخلنى الشك، فالشك فى الآخر صار من مستلزمات الحياة الآن، ولكن كيف أتصل بـ«آية عطية»؟ وإذا أردت أن أستوثق من المعلومة فبمن أتصل؟ أنا لا أعرف أحداً فى رئاسة الجمهورية منذ رحيل المهذب جمال عبدالعزيز، سكرتير مبارك، لم أعرف أحداً فى الاتحادية سوى سفير مثقف اعتدت أن أدعوه للحوار فى ريادة رفاعة رافع الطهطاوى واحد من قادة النهضة العلمية وفى زمن العياط كشف السفير عن وجهه الإخوانى!

المهم فشلت فى التأكد من الدعوة لحفل إفطار «الأسرة المصرية» خصوصاً أنى لا أحمل بطاقة ورقية تحمل ختم الرئاسة كما تعودت من تجارب العمر، وقررنا «حنان وأنا» الذهاب ومعنا بطاقاتنا الصحفية من باب الاحتياط خصوصاً أن «آية عطية» - سألتنى - قبل نزولى من البيت بنصف ساعة إن كنت قادماً أم لا، فأكدت لها حضورى، حين وصلنا أدركت أن الدعوة صحيحة وانتظرنا أمام باب الدخول ثوانى حتى يتأكد المشرفون أن «اسمى مكتوب» واصطحبتنا آية عطية وأجلستنا حسب خريطة تحدد مكان وموقع كل شخص، كانت المائدة التى جلسنا على مقاعدها متجاورين حنان وأنا فى الواجهة بحيث تبعد عن مائدة الرئيس بثلاثة أمتار، لم أحاول تغيير مكانى - مثلما فعل البعض للجلوس مواجهة لمائدة الرئيس، لم أحاول أن أقف بجوار حرس الرئيس أثناء دخوله القاعة فهذا أمنياً خطأ، التزمنا «حنان وأنا» بموقعنا الفريد ومعنا على المائدة بعض عضوات هيئة التدريس بالجامعة، تبادلنا الكلام عن تخصصاتهن وتذكرت اسم إحداهن حيث تمت بصلة قرابة لأشهر محام فى مصر وهو «الخواجة»، ثم انضم إلى مائدتنا بعض الرجال يتميزون بنظرات حادة وأجسام عريضة ولفتتات مفاجئة، حسب خبرات سابقة، أظن أنهم رجال أمن الرئيس ولم أحاول أن أفتح حديثاً مع أحد أو أبنى علاقة أو أمهد للتواصل مع أحد، ركزت اهتمامى على حوار السيسى وأنا على بعد أمتار ثلاثة منه، فهو رئيسى وأفخر، على عكس دعوة مشبوة مأجورة «من رئيسى».

■ أتابع..

ملاحظات «من تجارب سابقة فى الموائد الرئاسية فى مصر والخارج»، هناك خلف الرؤساء أطقم حرس، وليس وراء السيسى أحد سوى محاولة فقط للتطويق لمائدته، فى الموائد الرئاسية، شخص واحد «يخدم مائدة الرئيس» وفى مائدة السيسى عشرات الجرسونات يمرون من أمامه ومن خلفه!! ضيوف الرئيس - على المائدة - آباء وأمهات الشهداء وبعض شباب من ذوى الإعاقة، ولم يكن على مائدة السيسى واحد من رجاله وسط المدعوين ولا رئيس حكومة أو وزير، هناك قاعدة أمنية تقول إن «خلال تواجد الرئيس» تغلق أبواب القاعة، بيد أن أبواب القاعة كانت مفتوحة والدخول والخروج متاح تحت السيطرة، كان الرئيس محاطاً بناس من بر مصر وفى حضن أسرة مصرية كبيرة فهم ظهره وظهيره وعزوته، لم يكن المشهد رئاسياً بالمعنى الذى أفهمه وأعرفه، لكنها كانت دعوة لا يعرف أحد أسماءهم إلا نفر قليل منهم جاءوا من الوادى يجلسون مع رئيس مصر يفطرون ويتآمرون فى يسر وطمأنينة وبين الحين والحين تنطلق زغزودة مصرية تزف الفرح، هذا الرجل الذى أراه وسط الأسرة المصرية عاش فجر الأمل بعد ليل اليأس وانتشل مصر من التردى وقال كلمته التى صارت وشماً فوق كل قلب «نكون أو لا نكون»، هذا الرجل الذى أراه على بعد 3 أمتار منى لا يضىء شمعة لعميان ولا يعزف لحناً لطرشان، إنه يشعل ضوء الأمل لملايين «تمردت» لتعود لمصر هويتها، إنه يعزف دائماً مقطوعة «الإصرار»، شعب أقسم أن يسترد مصريته مضحياً بالأرواح رغم أنف تدابير الغرف المتآمرة.

■ أتابع..

قام الرئيس السيسى ووقف أمام الميكروفون ببدلته الكحلى وربطة عنقه العفوية وتكلم، الملاحظ أن السيسى لا يلجأ للخطاب الحماسى النحاسى الذى يلهب الأكف «النمط الناصرى» ولا يلجأ للخطاب الذى يرفع صوته ويخفضه حسب أدائه «النمط الساداتى». ولا يلجأ للخطاب المكتوب الذى يقطعه بكلام عفوى «نمط مبارك»، ولا يلجأ لخطاب قصير الوقت يتعمد الإيجاز قد لا يشبع الناس «نمط عدلى منصور»، السيسى يعتمد على صوت لا يعلو إلا فى لحظات الغضب، حيث تلمع عيناه ويزم شفتيه، لكنه فى الظروف العادية يخاطب العقل بأسلوب هادئ محدد النبرة تغلب عليه العاطفة وإن طالبته مرة أن «يظهر وجهه الغضوب» فهى ضرورة، ما من مرة تكلمت امرأة ريفية إلا وأصغى لها، وإذا قاطعه أحد برأى من القاعة رد عليه ولا يهمله، كان صادقاً عندما قال لنا «أنا مش رئيس ولا زعيم، أنا واحد منكم أحمل مسؤولية»، لم أصفق مثل بقية الحاضرين فقد كنت معنياً باستيعاب ما ينطق به الرئيس بعفوية، إنه ينفى عن نفسه أنه «رئيس وزعيم»، وتلك شيم الكبار.. كاسترو يخاطب شعبه بالإخوة الأعزاء ويقول «تصرفت كواحد من كوبا» مانديلا كان يخاطب شعبه بكلمات الشارع التلقائى وهو الأفريقى الفصيح والمثقف المقاوم، السيسى مسكون بمسحة من الشجن حين يتطرق للكلام عن الشهداء، لكن من المؤكد كما أراه - على بعد ثلاثة أمتار - تفيض عيناه بالطمأنينة والحنان، هو الرجل والزوج والأب. قلب كبير حتى يستوعب حالة عشق وطن، ما أروعه وهو يقول «ليس بينى وبين أحد خصومة ولا ثأر تاريخى» هذه المساحة من التسامح، هى صفة رجل عسكرى؟ أخذت أتأمل رأس هذا الرجل وأسأل كيف يتجاوز أحزانه على رجاله الذين يسقطون كل يوم؟ وهذا الجبل من الهموم العامة ومطارق الزمن، جعلته يتحصن منها بالإيمان.

أفكر وأنا جالس خارج السياق: هل ذهب السيسى يوماً لمنجمه، أم هو يضع قدره بعقله ويديه؟ لا أظن أن رجلاً مثله يقرأ الطالع أو يقرأ له أحد فنجانه على سبيل المزاح، إن ابتسامته منسوجة من إيمان وثقة وتصميم وهو صبور ولكن لصبره سقفاً، حين أحدق فيه أشعر أن لديه خبرات طويلة عن كتيبة الإعلام حيث درجات الثبات والتحول نفراً نفراً.

عندى يقين أنه يعرف مصدر صوت أى إعلامى: من مصر المحروسة أم من عاصمة من عواصم العالم؟ وأجهزته - هكذا أفكر - تعرف «دخل» كل فرد ومن يدفع ومن ينفق، حتى المال السياسى فى انتخابات البرلمان القادمة يعرف بوصلتها واتجاهاتها الأربعة، هذا الرجل لديه حاسة قوية فى شم ريح النفاق عن بعد ودون كلام أسطوانى أو بطابور المداحين والكورس، مازلت مستغرقاً فى تأملاتى وهو يتكلم لكن عيناى مثبتتان عليه ودماغى سارح، كم من التفاصيل فى رأسه؟!

بلد فى حالة حرب شرسة على إرهاب غادر ومشغول بحرب الأهلى والزمالك، بلد يضرب الإرهابيين فى مقتل وينتظر على الشاشات ضحية جديدة لرامز طافح الجو، بلد يحارب وأهله يتابعون أثر المخدر تحت السيطرة من يعرف مفاتيح السيسى؟ أظن أنه يشبه إن لم تخنى الذاكرة مفاتيح السادات، وإذا كانت الرجولة فى أبسط معانيها الدارجة فهى الفوز بقلب امرأة، لكن السيسى فاز بقلب وطن، رغم ذلك أراه من قرب خجولاً، فهل هو قناع أدبى لرجل عسكرى أم هو الخجل العفوى البشرى، الرجل ليس ملاكاً، فهو بشر ويخطئ وقابل للاعتذار ومعروف أعداؤه نفراً نفراً.

■ أتابع..

عدت للمشهد فوجدته يصغى لإحدى ضيفاته «الحاجة نرمين» المرأة الريفية التى وجهت له الدعوة للإفطار عندها، فحول الدعوة للإفطار معه وظللت أراقب حتى قام وتكلم بهدوء ويملك أن يقتلع من قلبه وعقله المزدحم هذا الهدوء والثبات، كيف؟ لا أدرى، لا يربك تفكيره راغبو السلطة وهم كثر. أسمع الرئيس جيداً لأنى أجلس على بعد 3 أمتار من المنصة وهو ما لم يتح لى من قبل، ما بقى فى رأسى من كلام السيسى هو «ألا تشغلنا القضايا الخلافية عن القضايا الأساسية»، مثلاً تفذلك البعض حول «إمكانية عزل رؤساء الأجهزة الرقابية» يصدق السيسى فى تصريحه، لقد عشت تجارب سابقة فى عهود لا داعى للخوض فى تفاصيلها، كانت الأجهزة الرقابية تخفى معلومات عن القيادة السياسية وكانت «تبيّض» وجوهاً سوداء غارقة لشوشتها فى المخالفات وتكافئها بمناصب وكان المسؤول الرقابى صموتاً كبوذا، يأتى إلى المنصب ويغادره دون كلمة و«كله متغطى»، وكانت هناك أرقام تبدل وهى غير حقيقية، وكانت بعض شخصيات الأجهزة الرقابية تعرض ثلث ما لديها والثلثان فى «الغاطس» بلغة البحارة. يقول الرئيس «مخلينى ماشى على الشوك وعايزين كل حاجة كاملة». أتذكر ما قاله الرئيس الفرنسى ميتران علنا «إن ثمة خطأ ما يواجهنى فى أى قرار ربما لأنه صادر من بشر»، ويوافق هذا ما قاله أحمد بهاء الدين كاتبنا المستنير «إن فى بعض النقصان كمالاً» لقد حذر السيسى الناس من الاستخدام السيئ لحقهم فى الانتخابات قال «اختاروا أفاضل الناس»، وغضب السيسى برفق، ولا أعرف كيف يقنن غضبه حين قال فى صورة المعاتبة «بأن القناة الجديدة معمولة شو للسيسى»؟ كان فى صوته رنة حزن ممزوجة بقرف.

■ أتابع..

يستعد الرئيس للانصراف. تزاحمت حوله دوائر من البشر للكلام والظهور والتصوير، أكتاف حرس الرئيس تحميه من التدافع، لم أحاول المزاحمة بل ابتعدت عن الزحام وخشيت على حنان من «كوع» أحد الحرس مثلما حدث لى مرة فى موسكو، لكزنى حرس بوتن بكوعه فى قفصى الصدرى وآلمتنى وعولجت منها، طلبت حنان التقاط صورة معه تسجل اللحظة التذكارية فهى تشعر بسعادة أن تراه عن قرب وتجربتها فى الصحافة والتليفزيون علمتها آداب احتفالات الرئاسة رغم أنها من شباب الصحفيات وتدعى لأول مرة فى مناسبة رئاسية، لم تحاول حنان اختراق الصفوف وتطويق الحرس، فضلنا البعد عن التكدس، خرج الرئيس وأغلقوا الأبواب «تقليد أحفظه عن ظهر قلب»، فالمفروض أننا سنخرج بعد أن ينصرف موكب الرئيس، ساعتها، يفرج عنا، وأنا أقف فى انتظار فتح الأبواب، كنت أستعيد لحظات الحفل وكأنى مجترها، لهذا الحفل ميزة هائلة، قلما صادفتها، إنه «رئيس وسط عيلته» المصرية فى حالة فضفضة بلا رسميين كأنه دعانا جميعاً إلى بيت الحاجة نرمين.

■ أتابع..

على بعد 3 أمتار من السيسى «حاكم مصر الذى يحمل فوق كتفيه أعتى وأرذل وأثقل المهام فى تاريخ حكام مصر».. كانت جلستى وأعترف دون مزايدة: ملأنى «الأمل» ومنحنى «الثقة» وشحننى «قوة» وزادنى «يقظة» وأعطانى «فهماً»، السيسى رئيسى الذى أملك أن أقول له مباشرة «غلط» دون أن يعتقلنى.

هو «يعرف» أكثر منا: من يحرض ومن يمول ومن يتآمر ومن يخدع ومن يتمسكن.

هو «يرى» أبعد مما نراه: يرى القذر والخائن وذا الألف وجه الجبان والحنجورى النصاب.

هو رئيس «كل» المصريين الذى يرهن حياته لأغلى اسم فى الوجود: مصر.

السيسى أحد أضلاع مثلث: ضلعاه الجيش وشرطته والقانون والواقف والجالس.