ما إن تواترت أخبار عجائب آلة الطباعة التى اكتشفها العالم الألمانى جوتنبرج فى القرن الخامس عشر، حتى ناصبها فقهاء الدولة العثمانية العداء، بل أفتوا بأن «اقتراف» الطباعة يعد إحدى الكبائر. وأخذ هؤلاء الفقهاء يبحثون عن مسوغات وذرائع دينية لاستعداء العامة وتبرير الفتوى، وقد كانوا فى حقيقة الأمر يدافعون عن مصالح اقتصادية مرتبطة بـ«بيزنس» الخط اليدوى، الذى كان وقتها مربحاً وضامناً للترقى الوظيفى والاجتماعى. وتلاقى هذا التربص الدينى الخبيث بتوجس الخلفاء العثمانيين المتعاقبين من مآلات انتشار «موبقات» الطباعة فى تكدير الأمن العام وزعزعة أوتاد الحكم، لدرجة أن آلات الطباعة لم تعتمد رسمياً فى الدولة العثمانية إلا فى منتصف القرن الثامن عشر، أى بعد مرور ثلاثة قرون تقريباً من الظلام والإظلام. أما هناك فى بلاد العلم والنور البعيدة، التى ليس للفقهاء فيها على الناس من سبيل، فقد تطورت تقنيات الطباعة تطوراً مذهلاً، وصولاً إلى ما نألفه الآن من طابعات محمولة، نوصلها بحواسيبنا الشخصية، لنطبع ما يعنُّ لنا من كلمات وألوان وصور، وما يطيب لنا من أشكال الخط وتشكيلاته وزخارفه.
أما آخر المدهشات فهو الطباعة ثلاثية الأبعاد Printing D 3، التى تستبدل الطباعة على الورق بطباعة المجسمات الفراغية، وذلك باستخدام خامات لدنة منتقاة تعبأ فى منصات الطباعة Cartlidge كأحبار. وقد شاع استخدام هذه التقنية البازغة فى صناعة النماذج الهندسية الأولية بل امتد أيضاً إلى صناعات الأجهزة الإلكترونية الدقيقة.
أما المذهل حقاً فهو نجاح الطابعة ثلاثية الأبعاد فى تصنيع أعضاء بشرية كاملة وعاملة. فقد تم بالفعل طباعة أذن وكلية وقصبة هوائية وحالب ومثانة وأوعية دموية، معززة بمولدات أكسجين وخلايا حية جسدية وجذعية، تم زراعة بعضها بنجاح فى أجسام أطفال وبالغين. والميزة الكبرى التى توفرها هذه التقنية المسماة Bioprinting هى أن الخلايا المستخدمة فى الطباعة، بتعدد أنواعها ووظائفها، مستمدة من جسم المريض نفسه، مما يستبعد فرص لفظ العضو المزروع.
تُرسم تصاميم هياكل الأعضاء المراد طباعتها باستخدام الحاسوب اعتماداً على صور الأشعة التشخيصية، ثم تخلط الخلايا المستخدمة فى الطباعة بسوائل تغذية لإبقائها على قيد الحياة، ويصب الخليط الحيوى فى منصات طباعة ذات فوهات منفصلة بحسب نوع الخلايا، وعند الضغط على زر الطباعة تقذف كل منصة خلاياها بحسب موقعها فى بنية العضو، ثم تتراكب طبقات الأنسجة الواحدة تلو الأخرى حتى يكتمل العضو المراد طباعته. ويعتقد العلماء أنه خلال عقدين من الزمن سيكون هناك طابعات فى غرف العمليات، محملة بخلايا متنوعة للمريض، تمكن من طباعة أى عضو يرى الجراح استبداله أثناء الجراحة، كما سيكون هناك شركات للتقانة الحيوية تطبع نسخاً من الأعضاء البشرية لعملائها حسب الطلب، وتخزنها فى مبردات لحين الحاجة إليها.
ومن الجدير بالذكر أن طباعة نماذج مصغرة للأعضاء البشرية الحية باتت تحظى باهتمام بالغ من شركات الأدوية المعنية بدراسة الآثار العلاجية والجانبية للعقاقير، وكذلك من الجيوش التى تدير مشروعات حروب بيولوجية وكيميائية، وتخطط لاختبار أسلحة فتاكة تعلق عمل القلب أو الرئة أو العينين بذرّات من رذاذ.
ولن يكون من المستغرب حينها أن يخرج علينا بعض المتفيقهين ليفتوا بتحريم استخدام الأعضاء البشرية المطبوعة، لمصلحة بيزنس الرقية الشرعية والتداوى بالتراتيل والأحجبة، فلم تعد لمجتمعاتنا صلة بالحضارة الحديثة سوى الاستهلاك السفيه لمنتجاتها الدنيا، ثم ذبح منجزاتها الكبرى على مقاصل الفتوى.