استئذان لاستئناف مختلف

محمد المخزنجي الخميس 23-07-2015 12:12

لأعترف: إننى بعد تجربة عشرة أعداد من «العلم والحياة» بالكيفية التى ظهرت بها، ورغم القبول والترحيب الجيدين بما قدمَته، لم أعد أشعر بالارتياح فى أداء دورى فيها، صار يُبهظنى شعور بأننى أُثقل على الصفحة، وأن الصفحة تُثقِل علىَّ. أُثقل على الصفحة بالمساحة الأكبر التى أقتصها منها، مضطراً، لأن ما أقدمه من نص استقصائى فى معلوماته وصوره يُلزمنى بذلك. أما شعورى بأن الصفحة تُثقل علىَّ، فمرجعه (إضافة لخبرتى السابقة المؤلمة بأن أسوأ حالة لكاتب هى أن يكون مسؤولاً عن كتابة غيره) أنها تقولبنى فى إطار الثقافة العلمية، ورغم أن هذه الثقافة جزء أصيل من عالمى قارئاً وكاتباً، لكنه ليس كل عالمى، ولأن ذلك كذلك، فإننى أستأذن فى حلٍّ توافقى، أن أظل مع «العِلم والحياة» برأيى الاستشارى وجهدى التنسيقى ومقال فى ثقافة العلم أكثر إيجازاً فى أسبوع، وفى الأسبوع الذى يليه أستعيد ما كان لى من «رحبة» بكامل صفحتها، لأكتب فيها ــ مع الحرص على البعد البصرى فى تشكيل الصفحة علماً أو أدباً أو أياً من أطياف المعرفة التى صارت متداخلة الحدود بشكل مُقنِع وخلاب، ولعل ذلك يمنحنى مزيداً من الشعور بالحرية التى تهبنى الراحة فيما أكتب، والحب له، وإلا صارت الكتابة هَمَّاً على قلب الكاتب، سرعان ما ينتقل إلى قلوب القراء. ونحن جميعاً فى غِنى عن مزيد من الهموم التى لم تعد تحتملها القلوب، كما أن هذا الحل كفيل بإضافة أكثر من طيف ثقافى لصفحات الجريدة، كما أرى وآمل.

إذن، سأكون هنا كل خميس، أسبوعاً فى «العلم والحياة» ملتزماً بثقافة العلم ومُشتغِلاً عليها وكاتباً فيها، وفى الأسبوع الذى يليه منفرداً فى «رحبة» لتذهب بى حيثما تذهب حرية الكاتب، وحسبما تكون الاستجابة لنداء اللحظة. وهنا أتوقف وقفة تبدو خاصة وشخصية لكنها عامة فى دلالتها، فقد هاتفنى وحادثنى كثيرون عن «تصريحات» و«تعليقات» تصدر باسمى على صفحات الإنترنت، وأخبار عن مؤتمرات وندوات أَحضُرها وبيانات أوقِّع عليها، وأنا ليس لى أى حساب شخصى على الشبكة، لا فيسبوك ولا تويتر ولا غير ذلك، كما أننى توقفت منذ سنوات عن الإدلاء بأحاديث صحفية أو التوقيع على بيانات، إضافة لتنائىَّ عن حضور الندوات والمؤتمرات واللقاءات وما شابهها، لا لشىء إلا الرغبة فى الفوز بأقصى درجة من الشعور بالحرية الشخصية وادخار الوقت لما هو أصفى وأجدى، والحصول على أقصى درجة ممكنة من التصالح مع طبيعتى الانفرادية أو الفردية أو الفردانية (لا الانطوائية ولا الانسحابية**) فيما تبقَّى لى من عمر، أكرسه للقراءة والكتابة، حيث لا يُعبِّر عنى إلا ما أكتبه، فى زمن كثر هرْجُه ومرَجُه ومجانية الادعاءات والمواقف فيه، خاصة وراء أستار الإنترنت، وقد تبينت أن ما حادثنى به البعض أو هاتفونى بشأنه، مرجعه وجود شخص آخر يحمل الاسم نفسه «محمد المخزنجى»، يُكثِر من الإدلاء بتصريحات وتعليقات وغير ذلك مما يُنشر على صفحات الشبكة العنكبوتية، وهو على ما يبدو لا يريد تمييز ذاته بالاسم الثلاثى أو بحرف يوضح تمايزه، بينما هذا واجبه نحو نفسه أولاً ونحو الغير فى الوقت ذاته، لكن يبدو أنه سعيد بهذا الالتباس، فله تلك السعادة، ولى هذا الإيضاح.

وإلى خميسٍ قادمٍ.. مُختلف.

الهادئ.. قوة الانطوائيين فى عالم لا يكف عن الكلام

اخترت تعبير «الانفراديين» أو الفرديين أو الفردانيين بديلاً للسائد السابق من ترجمة Introverts إلى «انطوائيين»، التى كانت توحى بسمات نفسية سلبية، وهو ما أطاحت به الكاتبة والباحثة «سوزان كاين» فى كتابها الرائع، المعنون: «الهادئ ـ قوة الانطوائيين فى عالم لا يكف عن الكلام»، الذى يمثل ثورة على إخضاع العلوم النفسية للمفاهيم الإقصائية فى الثقافة الغربية، الأمريكية الخُيلائية منها خاصة، حيث اتخذت تلك الثقافة من نموذج «المنفتح»، الاجتماعى، اللبق، المقتحم، واسع العلاقات والأنشطة نموذجاً قياسياً للتمجيد، بينما تثبت الحقائق التاريخية، والتمحيص النفسى، أن كثيرين من مُحدثى الثورات العلمية والفكرية والإبداعية، فى العالم، كانوا ممن وُسِموا بأنهم «انطوائيون»، وقد أوردت الكاتبة فى ذلك الكتاب واسع الانتشار، ومحاضرتها المصورة والمنشورة على موقع TED التى تابعها قرابة 12 مليون مشاهد، تعريفاً جديداً بديلاً للتعريف القديم الدامغ لهؤلاء الذين يكونون فى أفضل أحوالهم عندما يُتركون ليعملوا منفردين وفى هدوء، يعطيهم حقهم كنموذج نفسى سوى، مُغاير، ومبدع، ومطلوب بشدة فى سياق الصعود الإنسانى، بدون نشاط اجتماعى مفرط، ولا ذرابة لسان، ولا ظهور زائد عن الحد. ودون أن يعنى ذلك أبداً دمغ النموذج «المنفتح» المغاير، فحيوية الحياة تكمن دائماً فى التنوع. وسوف أعرض فى إحدى الرحبات القادمة- الانفرادية- لهذا الكتاب وتلك المحاضرة، فائقى الأهمية. بإذن الله.