قصة اليونان لم تنتهِ بعد، بل قد تكون المرحلة المقبلة حاسمة، ليس فقط لمستقبل اليونان، وإنما بالنسبة لمستقبل الاتحاد الأوروبى نفسه، فأخبار اليونان فى الأسبوعين الأخيرين كانت متلاحقة، وتبدو متناقضة. فبعد أن كان الشعب اليونانى، فى الاستفتاء، قد رفض بوضوح الشروط والإملاءات التقشفية المجحفة التى أصرت عليها أوروبا، عادت الحكومة اليونانية للتفاوض من جديد، ثم وافق البرلمان اليونانى على الخطة التقشفية المجحفة ذاتها تقريبا.
وبداية القصة فى فبراير الماضى، بعد أن فاز ائتلاف سيريزيا اليسارى فى الانتخابات وفق برنامج انتخابى واضح فى رفضه سياسات التقشف التى فرضها الاتحاد الأوروبى منذ عام 2010. وقد تعهد رئيس الوزراء ألكسيس تسيبراس بإعادة التفاوض مع الأوروبيين من أجل تحسين الشروط، مع البقاء داخل الاتحاد الأوروبى. ومنذ ذلك التاريخ، خاضت حكومة تسيبراس مفاوضات صعبة وطويلة مع المفوضية الأوروبية والبنك المركزى الأوروبى وصندوق النقد الدولى، فيما صار يعرف بالترويكا. وقد أصرت الأطراف الأوروبية، بقيادة بالغة التشدد من جانب ألمانيا، على موقفها الأصلى فى تلك المفاوضات ورفضت التزحزح قيد أنملة، وظل البنك المركزى الأوروبى يحد من السيولة المتاحة للبنوك اليونانية لإجبار حكومتها «على الإذعان»، على حد تعبير وزير المالية اليونانى السابق الذى تولى المفاوضات، يانيس فاروفاكيس. وهو ما اضطر تسيبراس للجوء للاستفتاء العام الذى دعا فيه اليونانيين لرفض الخطة الأوروبية، أملا فى أن يؤدى ذلك لتحسين موقف حكومته التفاوضى. وقد رفض اليونانيون بالفعل الإملاءات الأوروبية، وعادت حكومة تسيبراس من جديد للمفاوضات إلا أنها لم تجد إلا موقفا يزداد تشددا وصلفا، وصفته الوول ستريت جورنال بأنه يريد «خضوعا كاملا» من جانب اليونان لشروط البنك المركزى الأوروبى والمفوضية الأوروبية.
وطالب الأوروبيون بموافقة البرلمان اليونانى أولا على حزمة من السياسات التقشفية وإجراءات الخصخصة قبل أن تبدأ أوروبا فى تقديم أى مساعدة لليونان. وبالفعل اضطرت حكومة تسيبراس لأن تتقدم للبرلمان بتلك الحزمة من السياسات، فوافق عليها. بعبارة أخرى، طلبت أوروبا من البرلمان اليونانى أن يوافق على ما رفضه شعب اليونان، وتقدمت حكومة تسيبراس بالفعل للبرلمان بخطة يعارضها هو وحزبه. أما صندوق النقد فقد تسربت إحدى وثائقه التى تقول إن تلك السياسات التقشفية والقروض الجديدة التى تصر عليها ألمانيا لن تحل مشكلة اليونان، وإن على أوروبا أن تقبل بإعفاء اليونان من بعض ديونه واقترح الصندوق فترة سماح لمدة ثلاثين عاما لا تطالب فيها اليونان بدفع مستحقات.
الأهم فى كل ذلك هو أنه لم يعد خافيا أن أوروبا فى تلك المفاوضات لم تُعِرْ بالًا على الإطلاق لما أراده شعب اليونان، وأن شروطها كانت على حد تعبير الاقتصادى الأمريكى بول كروجمان «ثأرية»، وأن ألمانيا «لم تكن لتكتفى بالاستسلام»، وإنما أرادت «إذلالا كاملا» لليونان الذى تجرأ، ورفض أصولية نيوليبرالية أفلسته. حتى صندوق النقد الدولى، أعتى مؤسسات النيوليبرالية، يشهد قلقا، كما تدل الوثيقة المسربة، من تطرف تلك الأصولية النيوليبرالية، بعد أن كان هو الذى فرض تلك السياسات من الأساس على اليونان منذ خمس سنوات. ولهذا السبب تحديدا، فإن قصة اليونان فى تقديرى لم تنتهِ بعد. والأخطر منها أن قصة الاتحاد الأوروبى نفسه صارت على المحك. فليس مستبعدا أن تكون الدول الصغيرة فى الاتحاد الأوروبى قد بدأت تستعد جيدا ليوم تختلف فيه مع سياسات بروكسل أو سياسات ألمانيا لئلا تتعرض لمعادلة الإذعان التام التى شاهدنا فصولها تجرى مع أمة عريقة كاليونان.