حديث الثلاثاء.. طعم البيوت

مي عزام الثلاثاء 21-07-2015 00:37

ماذا يبقى من البيوت؟

طعم ورائحة وذكرى تظل محفورة في القلب ومطبوعة في الخيال. ماذا بقى في القلب والخيال من بيت العيلة بحديقته الخلفية ذات الأشجار الضخمة التي تخفيه عن عيون الجيران والفضوليين؟؟.

سكن الطفولة ذو المداخل الثلاثة، الرحب رغم كثرة عدد ساكنيه وضيوفه ومرتاديه.

رائحة الزبد البلدى التي تفوح وهي تسيح على نار هادئة في الأوانى النحاسية المطلية، كنت أنتظر الانتهاء من ذلك الطقس الموسمى ،حتى أنعم بلقيمات ألتهمها بشغف من بواقى الزبد الساخنة والتى تعرف باسم (المورته)، طعمها اللذيذ مازال عالقا على طرف لسانى..

طقوس تخزين الجبن في موسمها ووضعها على «مصافى» في شرفة المطبخ لتجفيفها من الماء وتحويلها إلى جبن قديم في (زلع) مغلقة لا تفتح إلا في موعد محدد من العام .

رائحة خبيز كعك العيد التي كانت تعطر البيت كله ،وحرصى على أن يتركوا لى قطعة من العجين أشكلها على هيئة طيور وأنتظر خروجها من الفرن بفارغ الصبر والفرحة تغمر قلبى الصغير.

حجرة الخزين الكائنة في الحديقة أسفل المطبخ المليئة بأجولة البطاطس والبصل والثوم والأرز... الفئران الصغيرة التي كانت ترتع فيها وتتخذها موطنا ،وكيف كنا نستعين بالمصايد للايقاع ببعضها وتساعدنا القطط المنتشرة في الحديقة فهى تجهزعلى الباقى منها.

الأرجوحة المعلقة بين جذعى شجرتى الكازورينا، لوح بسيط من الخشب المصقول مربوط بإحكام بأحبال قوية، أشجار التمرحنة والسبوتة والجوافة الملاصقة للشرفة، عم جلال الجناينى العجوزالذى كان يبحث بدأب عن الحشائش الشيطانية ليقتلعها من احواض الورد البلدى الذي كان يبرع في تنسيقها، وكان يزرع جرجير وبقدونس ونعناع بلدى بناء على تعليمات أمى في الحوض المجاور لسلم الشرفة.

السماء الصافية ليلا والنجوم تزينها وكأنها قطع ماسية ترصع ثوب من الحريرالأسود ،كنت احاول بسذاجة ان أعدها ،واتخذ من سلالم شرفة المطبخ المؤدية إلى الحديقة مرصدا، وكثيراما اتخدت الحديقة الخلفية معبرا للوصول للمر المؤدى للشارع المجاور لمنزلنا والذى كان يفصله عنا باب خشبى صغير، كنت أذهب لزيارة صديقتى«منى» دون أن أخبرأمى، كنت استمتع بتلك المغامرات الصغيرة .

صعودى لسطح المنزل لمناجاة ربى وأنا دون العاشرة وتصورى بعد مشاهدتى فيلم «رابعة العدوية»أننى سأصبح مثلها من الدعاة وأقطاب الصوفية.

تسللى لحجرة الصالون ،والساعات التي كنت أقضيها أخاطب فيها عرائسى.... كنت أحكى لهم واستمع إليهم.

حرية اللعب بلا حدود، أرسم بالطباشير الأبيض على بلاط الشرفة الكبيرة (رستة) وأظل ألعب حتى الملل ولم أسمع مرة صوت أمى يأمرنى بالتوقف .

التلذذ بالإمساك بالطين وزراعة الأرض على شرط أن أغسل يدى من حنفية المياه العكرة ،التي كانت منتشرة في الحدائق حينذاك ،قبل الصعود للمنزل.

حياة... صور... ألوان... آفاق مفتوحة ومستقبل يمتد على مرمى البصر لاعوائق تصدم حلمك ولامخاوف تيقظك منه .

ماذا بقى من بيت العيلة؟

ماذا بقى من الصور القديمة بعد موت الطقوس وأزمة الإسكان وغلاء المعيشة؟

لم يبق من صورة البيت العتيق إلا الذكريات، تم التضحية بشجرتى الكازورينا لبناء منزل لأخى في الحديقة الخلفية لبيت العيلة، لكن أحدا لم يستطع أن يقتطع هذه الأشجار من ذاكرتي.

تعلمت في بيت العيلة معنى الحرية والاستغناء والكبرياء.

تنقلت في حياتى بعدها في بيوت ظلت بالنسبة لى مجرد استراحات لا أحزن على فراقها، أتركها لأبحث عن الأفضل. لم أشعر في أي منها بطعم البيت الذي يمثل السكن والسكينة.

شقق معلقة بين فكى فخاخ أسمنتية يشاركك فيها بشرلا ينتمون إليك ولا تنتمى إليهم... في الشرفة تذبل ورودك وسماءك تبدو كالحة والأفق مسدود بحوائط اليأس.

أعتبر نفسى محظوظة لانتمائى لجيل عرف يوما معنى طعم البيوت.

ektebly@hotmail.com