من دلالات الواقع أنه ما من مصرى ولد فى مصر من أصول مصرية وأكل وشرب منها وعاصر أصالة الكثير من مجريات الأمور المشرقة فيها كما ساءه فقدان العديد من ضروراتها الحيوية، إلا وهذا الوطن بإيجابياته وسلبياته متأصل فى وجدانه يجرى فى عروقه مجرى الدم، مصداقاً لقول حكيم من رموز هذا العصر إن «مصر وطن يعيش فينا لا وطن نعيش فيه». ولا ينال من ذلك أن فئة ضالة قد تجاوزت فى تعديها، بل وأجرمت فى حق هذا الوطن لمطمع فى مقدراته ومغنم من عدو غاصب، ذلك أنه من طبيعة الخلق أن من البشر من يعميه طمعه فينجرف إلى دعوة الباطل فيزلَ، ومن ثم فهو ليس بمقياس يُعمم عليه بل شذوذ عن طبيعة المصرى الأصيل جدير بالرفض.
وأبلغ الآيات على أن وطننا هذا مترسخ فى نفوس أبنائه أينما كانوا هو ما بدر بدافع من الأصالة المصرية من علماء مصريين بلغوا أعلى المراتب العلمية العالمية ونالوا أرفع درجات التكريم فى أكثر البلاد الصناعية الكبرى تقدماً غير أن مصر ظلت فى وجدانهم فلم يتوانوا عن تلبية متطلبات تنادى بها بلدهم لاستعادة مجدها.
وإذا كان ذلك هو شأن المصريين المقيمين بالخارج، فقد كان من الطبيعى أن نرى انطباعاً أقوى أثراً لدى المصريين بالداخل. وما أدل على ذلك من إقبال جموع الشعب المصرى على شراء شهادات مشروع قناة السويس الجديدة مقدّمين ذلك من مدخراتهم وتضحياتهم أربعة وستين مليار جنيه فى ثمانية أيام فحسب وهو ما يزيد بأربعة مليارات عن التكلفة المطلوبة أصلاً، فضربوا بذلك مثلاً فريداً سيذكره التاريخ عن الأصالة المصرية التى تؤكد دوماً أن المصرى الأصيل مهما كانت ظروف معيشته يؤمن يقيناً بأنه متى نادى الوطن فالاستجابة أولوية لا تردد فيها.
من هذا المنطلق فإنى كمصرى يعتز بوطنه ويؤمن بأن كرامته من وفائه لوطنه، أتمنى فى هذه المرحلة من إعادة بناء مصرنا العزيزة الإسراع فى تصحيح ما تراكم لدينا من عوارض سلبية مازالت تعطل مسيرتنا. ومن بعض ما يتسع المقام للتنويه به أتمنى:
أولاً: أن يبرز لنا من الأحزاب المتناثرة بغير مقتضى أو فائدة للبلاد، من يصلح لدفع مسيرة الحياة السياسية ملتفتاً عن المصلحة الشخصية لمؤسسه ومريديه أو صراعاتهم الداخلية، متوخياً بالدرجة الأولى مصلحة البلاد التى تتطلب استكمال البناء الدستورى المنشود بانتخابات رشيدة وفقاً لسياسات وبرامج معلنة من العناصر الوطنية الصالحة لحمل الأمانة بإخلاص وطنى مجرد.
ثانيـاً: ولما كان شباب مصر هم أمل المستقبل الذين لن يتم الإصلاح والتنمية الصحيحين إلا بهم بديلاً عمن اصطبغوا بروتين ومعوقات الأنظمة السابقة، وقد أكدت الفترة الأخيرة فى مناسبات مختلفة أن مصر مليئة بالعقول الشابة المستنيرة القادرة على البذل والعطاء لتحقيق الانطلاق المنشود، فإنى أتمنى أن يكون لدينا حزب للشباب يرتفع صوته عالياً برؤية وطنية هادفة عن مستقبل هذا البلد. ولا جناح إذا دعمته الدولة فى بدء تكوينه.
ثالثـاً: أن نتمسك بتفعيل ما نعلمه جميعاً من أن الثقافة الصحيحة التى تتفتح بها مفاهيم الشباب والمعلومة الشاملة التى يتعايش بها المواطنون مع واقع بلدهم، قرينان لازمان معاً لترجمة الحس الوطنى إلى أفعال إيجابية تحقق ما ننشده لبلدنا. ومن ناحية أخرى فإن افتقادهما أو أحدهما قد ينحرف بنا إلى مسار لا نرجوه. ذلك أن الوعى الثقافى السليم والمعرفة الوافية بواقع الأمور ومجرياتها هما الحصن الواقى من خطيئة السلبية واللامبالاة والتشكك والرفض، أو خطورة الاستجابة إلى الشائعات المغرضة ومعاول الهدم التى يتيح الفراغ الثقافى أو عدم العلم بحقيقة الواقع الاستماع إليها.
رابعـاً: ألا يكتفى رجال الأعمال المخلصون بالمساهمة المادية فى تكلفة المشروعات التى تضطلع بها الحكومة، ذلك أن الحكومة وحدها لن تلاحق بالسرعة المطلوبة إلحاح مصر على الوفاء باحتياجاتها التى افتقدتها لسنوات طوال. وجهود المواطنين المخلصين لا تقل فاعلية عن جهود الحكومة، بل إن تضافر الجهود من الضرورات الأساسية لنجاح التنمية المنشودة. ولذا فإنه من الأهمية بمكان أن يبادر رجال الأعمال بتبنى المشروعات التى يعلمون بحكم خبراتهم ونجاحاتهم أنها لازمة لدفع عجلة الإصلاح والتنمية فى البلاد. وهو ما بدأ فيه بالفعل رجال مخلصون بدافع وطنى مشرف غير أن مصر مازالت تنادى بالكثير من الاحتياجات الضرورية العاجلة.
خامسـاً: أن يبادر العمال الصناعيون والزراعيون بنهضة ثورية يتعاظم فيها إنتاجهم كماً وكيفاً بشعور وطنى تثير جزوته الأصالة المصرية لهذه الفئة التى يشهد لها التاريخ بالتضحية والفداء حفاظاً على تراب هذا البلد الذى طالما ارتوى بعرقهم ودمائهم. وكلى ثقة فى أن العمال المصريين أصبحوا على دراية كافية بمدى تأثير إنتاجهم على التنمية الاقتصادية لمصر وزيادة مواردها مما يعود عليهم هم وأقرانهم بالمشروعات التى تغطى احتياجاتهم الضرورية بل والإنسانية.
سادساً : أما عن الإعلام على أهميته فى تكوين الرأى العام الذى تتشكل به ردود أفعال الشعب، فبحسبنا ما قيل من رجاله الشرفاء أنفسهم عن نبل رسالتهم ومقتضياتها. غير أننا مازلنا فى انتظار أن يكتمل دورهم الأساسى فى مخاطبة الشعب وولاة الأمور برؤية مخلصة لا تستهدف إلا مصلحة البلاد لا مبالغة فيها ولا إثارة بغير مقتضى، مع تحرى الدقة فى الخبر والصحة فى الرأى خاصة فى ثوابت الأمور الدينية ومستجدات الأحداث الاقتصادية والقانونية.
سابعاً: ألا تُغفل جمعية حقوق الإنسان المصرية أن الشعب المصرى الذى ثار مرتين لإعادة بناء وطنه وتحمل فى سبيل ذلك كثيراً من التضحيات، يتوقع تآلف الرؤى وتضافر الجهود شعباً وحكومة نحو تحقيق هذا الهدف دون تشتت بنظريات لا تتسع لها هذه المرحلة، وذلك إلى جانب محاربة الإرهاب الذى اندس علينا أخيراً لإعاقة المسيرة وصار يهدم بمعاوله جميع حقوق الإنسان التى كان الأجدر بجمعياتها المناداة عالياً فى الداخل والخارج بضرورة إيقافه بل والقضاء عليه. وبذلك فإنى أتمنى أن ترتفع مسؤوليات هذه الجمعيات فى مصر إلى مستوى إعداد البحوث والدراسات وعقد المؤتمرات والندوات وطـرح الآراء والأفكار البناءة التى تساعد الدولة على تحقيق ذلك الهدف كأولوية تعلو أى اعتبارات أخرى، متجهة بصفة أساسية إلى المبادئ الأصلية لحقوق الإنسان فى مفهومها الصحيح المتكامل، متمثلة فى مجالات تطوير التعليم والبحث العلمى الذى أصبـح ضـرورة ملحــة من أولويات حقـوق الإنسان، وتوفير الرعاية الصحية التى يعانى المواطن المصرى من فقدانها فى صورة إنسانية مقبولة، والارتقاء بالوعى السياسى الذى أصبح المواطن المصرى يتطلع إليه لاكتمال مؤسساته الدستورية فى صورتها السليمة، والإصلاح المجتمعى الذى يعانى من انتشار البطالة الضارة والعشوائيات المسيئة، والقضاء على مظاهر الحياة غير الإنسانية فى العديد من ربوع البلاد، فذلك هو الإطار الصحيح لحقوق الإنسان.