ثمة واقعة مليئة بالدلالات، يحكيها السيد أحمد أبو الغيط وزير الخارجية الأسبق، ضمن مذكراته "شاهد على الحرب والسلام"، عن عمله المخابراتي في بداية حياته تحت غطاء صفته الدبلوماسية في ستينيات القرن الماضي.
عمل أبوالغيط حينها ضمن البعثة الدبلوماسية المصرية في قبرص، وبينما كان يتعلم أوليات أعمال التخابر، طرق ذات يوم رجل مسن فقير باب السفارة المصرية وطلب أن يلتقي أحد موظفيها.
التقاه الشاب أحمد أبوالغيط الذي كان يعمل مسؤولا ثقافيا بالسفارة، ليستطلع الأمر، وإذا بالرجل مصور متجول، يجوب الطبيعة ويلتقط صورًا ويوثق أفلاما بديعة للأشجار والأنهار والجبال، ولما أنهكه الاحتياج المادي قرر أن يجرب الإتجار بهذه الصور عن طريق تصميم منهج دراسي يمكن أن يدرسه لطلاب مراحل التعليم الأساسي في أي بلد. وقد جاء الرجل ليعرض على المصريين تدريس منهجه الشيق للطلاب في مصر، لعله يحظى ببعض المال الذي يبقيه في قيد الحياة.
سأله الدبلوماسي المصري الشاب: وما هي الدول التي سافرت إليها من قبل ودرست فيها هذا المنهج من قبل؟
وجاءت الإجابة التي حركت كل الجشع المخابراتي الكامن في "أبو الغيط"، حين قال الرجل: إسرائيل!
على الفور تم تصعيد الأمر للمخابرات المصرية، وعبر مسلسل مدروس تم تجنيد الرجل لصالحنا، وطلب منه أن يسافر إسرائيل ليستكمل دروسه هناك بصورة طبيعية جدا، على أن يمد مخابراتنا بعدد من المعلومات المهمة التي نريد أن نعرفها من قلب إسرائيل..
وبالفعل، عمل الرجل وراسلنا بالمعلومات المطلوبة وبكفاءة عالية، لكن الأمر انتهى حين اكتشفه الإسرائيليون وألقوه في السجن بتهمة التجسس. وحين أنهى فترة عقوبته، كان رجال المخابرات المصرية بانتظاره ومعهم مكافأة سخية له على خدماته وعلى سنوات سجنه.
هكذا أنهى أبوالغيط قصته عن حسه المخابراتي اليقظ وعن نشاط أجهزة الأمن القومي المصري المحمومة حينها لتطويق العدو الإسرائيلي.
لكن سؤالا واحدا هو الذي لفت انتباهي من القصة كلها..
ماذا لو تركنا الرجل يدخل المدارس المصرية ويعلم الأطفال عن الطبيعة أشياء لا يعرفونها؟؟ ماذا لو استثمرنا صور الرجل في مجال التعليم؟ ماذا لو جاء إلى مصر ليلهب خيال الطلاب الصغار حول البيئة والطبيعة وكوكب الأرض؟
ماذا لو قدمنا التعليم على الأمن القومي مرة، بوصف الأول- من هذه الزاوية وهذا المنظور- هو زخر الثاني بطبائع الأشياء؟
لماذا حظيت أجيال إسرائيل بالمعرفة، وبقي بين أيدينا عدد من التقارير الأمنية فحسب؟
لا ينفي الواحد بطبيعة الحال ضرورة العمل المخابراتي ولا فائدة تقارير الرجل المسن (لا توجد إشارة واحدة على مقدار أهميتها من عدمه في مذكرات وزير خارجيتنا الأسبق) لكنها تجيء ضمن أعمال التجسس التي ساهمت في نهاية المطاف في صناعة نصر أكتوبر العظيم على عدونا الصلف الجبان.
لا أقصد هنا ذم عمل أبو الغيط بأثر رجعي، بل في العقلية المصرية المتربصة المتشككة بطبيعتها والتي ترتقي مسألة الأمن القومي فيها وشؤونه لدرجة اختراع وافتراض الهواجس حيال كل شيء، وفي بارانويا التشكك التي يمارسها المواطنون الشرفاء ضد كثيرين في الشوارع (وعلى رأسهم الأجانب) مثال حي على الحال الذي تردينا إليه.
وعين ما أرمي إليه هو تنحية التعليم دومًا جانبًا من رأس أولوياتنا، إلى حد أن وصلنا لمرحلة يتولى فيها مفاصل الدولة، حشود ممن أٌهمل في تعليمهم قبل عقود لصالح "الأمن القومي"، وهاهم الآن يشغلون وظائف من صميم الأمن القومي!
الجهل المطبق الذي يغلف أداء عدد ضخم من المسؤولين في كافة قطاعات الدولة وأجهزتها، نتاج مباشر للتعليم الذي ألقيناه في غياهب الجب، بينما كنا مشغولين بما صنفناه على أنه حصرا "الأمن القومي".
وفي حربنا المستعرة مع الإرهاب التي يحلو للواجهات الإعلامية التابعة لأجهزة الدولة المختلفة أن تطلق عليها حروب الجيل الرابع أو الخامس أو كليهما أو ما شابه فإن التأكيد ينصب على أنها حرب معلومات وتزييف وعي، وكسر إرادة.
وهو ما يستتبع (لذي عينين) أن يتم توسيع نطاق عمليات التوعية والتثقيف والتفهيم، وأن يوجد درجة أكبر من المكاشفة والمحاسبة لكيلا يتسلل العدو بين طيات جهلنا، دولة ومواطنين.
غير أن ما يحدث هو العكس تماما.. اختراع قوانين لتكبيل "التعامل المعلوماتي" مع رواية العدو، كما لو كانت المعركة هي الاستيلاء على آذان الجماهير لا عقولها.
ربما لو غلب أبوالغيط مسؤوليته الدبلوماسية والثقافية على رغبته في إنجاز عمل مخابراتي، لجاء هذا الرجل مصر في نهاية ستينيات القرن الماضي لنستفيد من أفلامه في مدارسنا.
لا أقول أن هذه الأفلام بها خلاصة الحكمة والمعرفة، لكنها كانت فرصة لطيفة أن يدرسها طفل مصري في ذلك الزمن البعيد، من هؤلاء الأطفال الذين صاروا محافظي ووزراء اليوم!
إذ ربما قليل من الوعي والمعرفة.. يؤديان بنا إلى مسار مختلف.