وصف الإمام الشافعى، الفقيه والعالم والإمام المصرى الليث بن سعد، بقوله: «نصير الفقراء، وظهير الضعفاء، عزيز النفس، صافى الوجدان»، وقال أيضا: «الليث أفقه من مالك، إلا أن قومه أضاعوه وتلاميذه لم يقوموا به»، وبالفعل لقد نسى أهل الفقه والفكر الدينى فى مصر جهود هذا الإمام الكبير، فى حين أن الأمة الإسلامية بحاجة لإحياء سيرة ومسيرة وأفكار ونهج هذا الإمام الكبير، الذى نحتاج لجمع تراثه وإعادة طبعه ومناقشته وإعادة دراسة منهجه، خاصة حينما نعرف أن الإمام الشافعى اعتبره إماما ودليلا وأستاذا له.
الكاتب المسرحى والأديب عبدالرحمن الشرقاوى أورد «الليث بن سعد» ضمن كتابه «الأئمة التسعة»، كما أفرد الدكتور عبدالحليم محمود كتابا عنه بعنوان «الليث بن سعد إمام أهل مصر»، صدر عن دار المعارف والليث بن سعد مولود فى قرية قلقشندة بالقليوبية، فى 94 هـجرية، وتلقى العلم عن كبار شيوخ مصر وكان فقيه مصر ومحدثها، وقد استقل بالفتوى فى زمانه ومما قاله أحد العلماء عنه: «لولا مالك والليث لضل الناس»، وقال عنه الشافعى: «الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس» وتوفى الليث فى النصف من شعبان 175 هـجرية، وشيع فى جنازة حاشدة ومهيبة.
ومما يروى عن الليث أنه اشتكى للخليفة من أحد ولاة مصر الذين أمروا بهدم بعض الكنائس، موضحا فى رسالة للخليفة أن أكثر الكنائس التى كانت قائمة بمصر إنما بناها الصحابة، ممن قادوا جيش الفتح الإسلامى، معتبرا إجماع مثل هذا العدد من الصحابة فى قوة السنة، فما كانوا ليجمعوا على أمر إلا لأنهم تعلموه من الرسول، وقام الخليفة بعزل الوالى، وأمر بإعادة بناء الكنائس القديمة، وإضافة كنائس جديدة، وأرسل لهارون الرشيد يقول: «صلاح بلدنا بإجراء النيل وإصلاح أميره، ومن رأس العين يأتى الكدر فإذا صفا رأس العين صفت السواقى»، ورغم شهرة الإمام الليث الكبيرة، لكن تلامذته لم يحفظوا أثره وضيع التجاهل والنسيان جهد هذا الرجل الذى سبق زمنه برفيع المعرفة واستنارة الرؤى، التى ربطها بالإصلاح العام للبلاد، ولما كان يتمتع بها هذا الفقيه العالم فقد كان مقصدا للعامة والخاصة، الصفوة والملوك والفقراء والمساكين، وكثيرا ما كان يهتم بالأحاديث التى تهذب الروح وتحرض على تأمل جمال الحياة ويروى عنه أن أول حديث رواه هو «إن الله جميل يحب الجمال»، وكان الإمام الليث منفتحا على الثقافات العربية والمصرية القديمة والجديدة، وكان محبا للعلم بكل صنوفه وأشكاله، فكان يتقن اللغتين العربية والقبطية، واليونانية واللاتينية، ما جعل عقله ينفتح على الثقافات الأخرى، وكان محبا للفنون وللشعر ومن مقولاته الرائعة «تعلموا الحلم قبل أن تتعلموا العلم»، وكان يرى أنه لا فائدة من أن تكون سعيدا وسط تعساء وقال فى ذلك: «إن الحكام وولاة الأمور مسؤولون أمام الله عن أن يوفروا للناس حد الكفاية لا حد الكفاف، وحد الكفاف هو ما يحفظ للناس حياتهم من الطعام والشراب، أما حد الكفاية فهو ما يكفى كل حاجات الناس من جودة الطعام والشراب، والمسكن الصالح المريح، والدواب التى تحملهم، والعلم الذى ينقذهم من الضلال، وسداد ديونهم، ولعل هذه الفتوى جاءت من اقترابه من الفقراء وشعوره بمعاناتهم اليومية، فكانت الفتوى هنا انتصارا للعدالة الاجتماعية بمفهومها المعاصر.