«أتوبيس الموت» فى المنيا.. «البداية» تذكرة بـ«3» جنيهات.. والنهاية «الموت غرقاً»

الثلاثاء 16-12-2008 00:00

(1)

كعادته فى كل صباح كان ميدان المحطة فى مدينة المنيا مزدحمًا.. المشهد أمس الأول لم يكن مختلفًا عن باقى الأيام.. باعة جائلون يتسابقون فى تسويق ملابس وأطعمة وأحذية.. صبية، يقف كل منهم أمام الميكروباص الذى يعمل عليه وينادون بأعلى أصواتهم.. «واحد مغاغة» اتنين بنى مزار.. واحد بنى سويف، أجراس مزلقان السكة الحديد تدق بين الحين والآخر كلما قرب مرور القطار.. أتوبيسات النقل العام تنتظر فى المكان المخصص لها.. تمتلئ بالركاب.

(2)

الأتوبيس رقم (15) كان يستعد لبدء رحلته من مدينة المنيا إلى بنى سويف، السائق أدار الأتوبيس، وجلس على مقعده يجهز أدواته تمهيدًا للانطلاق.. راكب بعد الآخر يصعدون ما بين سيدة وطفلتها جلستا خلف السائق.. وشاب ارتمى إلى جوار الشباك.. فتح زجاجه لحين تحرك الأتوبيس، وفتاة وصديقتها جلستا معًا فى المقعد المقابل، وأب وأولاده الثلاثة حجزوا مقعدين بالخلف، وطفلة تضع يديها فى جيوب ملابسها طلبًا للدفئ.

امتلأت مقاعد الأتوبيس.. وصعد المحصل.. وجمع قيمة التذاكر من كل راكب، وبعدها قال المحصل للسائق «اطلع يا عم أمجد».. تحرك الأتوبيس من الموقف، ألقى السائق السلام على زملائه الذين وقفوا أمام أتوبيساتهم.. كان مؤشر الساعة فى الميدان يشير إلى التاسعة وعشر دقائق.. عندما اختفى الأتوبيس عن المكان.

(3)

دقائق وتوقف الأتوبيس عند محطة سمالوط.. ليصعد عدد من الركاب ويهبط آخرون.. عدد من الشباب تركوا مقاعدهم عندما شاهدوا سيدات يقفن فى الأتوبيس بعدما امتلأ عن آخره.. وتقابلهم السيدات بدعوات بالتوفيق والنجاح.

داخل الأتوبيس انشغل كل راكب بما يدور فى رأسه سواء كان بمشاكل أو سبب الزيارة أو بموضوع عام.. عدد كبير من شباب الجامعة الذين كانوا فى طريقهم إلى جامعة بنى سويف.. انقسموا إلى 3 مجموعات بعدما جاءت سيرة خسارة النادى الأهلي.. مجموعة أهلاوية تدافع عن ناديها وتعاير مجموعة أخرى زملكاوية بدت عليهم الفرحة لخسارة الأهلي.. ومجموعة ثالثة لا تهتم بما يقال.. يقرأون فى كتبهم ويتهمون المجموعتين الأخريين بالتفاهة.

خلف هؤلاء الشباب كان عدد آخر من الركاب يجلسون - بعضهم مستمتع بالنقاش المحتدم بين الزملكاوية والأهلاوية.. والبعض الآخر يطالبهم بالصوت المنخفض والالتفات إلى دروسهم.. أحدهم وقف وقال «انتبهوا لمصلحتكم.. الكورة لن تنفعكم».

على مقعد آخر فى وسط الأتويبس كان يجلس رقيب شرطة انتفض من مكانه عندما شاهد سيدة عجوزًا تقف فى نهاية الأتوبيس، قائلاً: «تعالى يا حاجة اجلسى مكانى».. اقتربت السيدة.. وجلست فى مكان الشاب.. بعدما أمسكت فى يده وضغطت عليها مرددة «ربنا يحميك.. ويديك الصحة يا ابنى».

الساعة كانت تقترب من العاشرة صباحًا عندما اقترب الأتوبيس من محطة بنى مزار.. ميدان المحطة مزدحمًا.. صوت جرس مزلقان القطار يدق.. عدد كبير من الشباب والركاب ينتظرون على رصيف محطة القطار.. قبل دقائق من دخول الأتوبيس إلى بنى مزار.. كان القطار المتجه إلى بنى سويف قد استقر على المحطة.. تدافع الركاب للدخول إليه.. نجح عدد من الأشخاص فى الركوب.. بينما فشل آخرون فى الدخول.

العدد الأكبر من الركاب كان لطلاب جامعة بنى سويف.. معظمهم من الشباب.. يحملون كتبهم الجامعية، يقفون فى جماعات.. لم يفرقهم غير القطار المزدحم.. محمود ومحمد وعلى وعبدالرحمن وخليل.. كانت مجموعة واحدة.. اثنان منهم «على وخليل» تمكنا من ركوب القطار.. بينما فشل الآخرون.. عبر نافذة القطار اتفق أفراد المجموعة على التجمع مرة ثانية داخل الجامعة.. تحرك القطار.. وكان على من لم يتمكنوا من الركوب أن يبحثوا عن وسيلة نقل أخرى.

عدد كبير من الركاب وقفوا على الطريق الزراعى لعل سيارة تقف إليهم وتنقلهم إلى الأماكن التى يرغبون فى الوصول إليها.. أو أحدًا من أقاربهم يقود سيارته الملاكى أو الأجرة يصحبه معه عندما يشاهده يقف على الطريق.. وعدد آخر من الركاب بينهم الأصدقاء الثلاثة أسرعوا إلى موقف الأتوبيس، لحظات وكان الأتوبيس رقم (15) قد وصل إليهم.. رغم ازدحامه وتكدسه بالركاب.. إلا أن الركاب والشباب لم يكن أمامهم اختيار آخر غير التزاحم.

مثلما يقولون أصبح الأتوبيس مثل «علبة السردين».. الركاب الذين يقفون فى الطرقة أكثر بكثير من الذين يجلسون على المقاعد.. المحصل يلف مرة واثنتين ليحصل أجرته.. يتشاجر مرة مع راكب على ثمن الأجرة.. الراكب يقول له إنه ركب من بنى مزار لذا فالأجرة «جنيهان».. والمحصل معترضًا: «الأجرة موحدة 3 جنيهات».. وينتهى الحوار بأن يضطر الراكب إلى دفع الجنيه الإضافى بعد أن هدد المحصل بأنه سيطلب من السائق أن يتوقف.. وسيكون على الراكب لحظتها إما الدفع أو النزول.

(4)

ومرة ثانية يتشاجر المحصل مع عدد من شباب الجامعة.. يطالبهم بالدخول إلى داخل الأتوبيس.. بينما يصر الشباب على الوقوف إلى جوار الباب.. أحيانًا يمل المحصل من الكلام.. وأحيانًا أخرى يقف ويصرخ.. «ادخلوا جوه أحسن حد يقع منكم ويجبلنا نصيبة» وأحيانًا أخرى يفاجأ المحصل بأحد الركاب يجلس على مقعده فيطالبه بترك المقعد، وحينما يعترض الراكب.. قائلاً «إحنا عاوزين نقعد» فيرد المحصل «انتو اللى زحمين الأتوبيس وانتو اللى غاويين تركبوا فى الزحمة».. فيقاطعه الركاب «طيب نعمل إيه.. مفيش مواصلات.. نقعد من الشغل».. ينتهى الحوار الساخن بين الركاب والمحصل إما بـ«قفشة» من أحد الركاب.. أو بدعاء «ربنا يخرجنا منها على خير».

الحوارات الجانبية لم تتوقف للحظة واحدة بين الركاب.. أحاديث تقاطعها أحاديث.. ومواضيع كثيرة بين الشخصية والعامة والخاصة والاجتماعية والفنية والرياضية دارت داخل الأتوبيس.. لم يقطعها غير صوت المحصل.. اللى نازل مغاغة يحضر نفسه على الباب علشان باقى 5 دقائق فقط على المحطة.

قبل أن يستعد الركاب للتحرك نحو الباب الخلفى أو الأمامى كانت الكارثة.

(5)

المشهد بالضبط - كما رواه المصابون والناجون - كان كالتالي.. الركاب يستعدون للنزول.. ترعة الإبراهيمية على يميننا والأرض الزراعية على يسارنا قلما نشاهد فيها مزارعًا استيقظ مبكرًا وذهب إلى حقله.. دون أى مقدمات.. فوجئ السائق بسيارة نصف نقل خضراء اللون تحمل «حجارة» تخرج من أحد الطرق الفرعية وتتجه إلى الطريق الرئيسى بشكل مفاجئ.. حاول سائق الأتوبيس أن يتفاداها.. انحرف يسارًا قليلا.. فكاد أن يسقط فى الأرض الزراعية.. فانحرف يمينًا بشكل مفاجئ فاصطدم بمؤخرة السيارة النقل.. فتحرك الأتوبيس يمينًا ويسارًا.. وقبل أن يسقط فى الترعة.. فتح السائق بابه.. وألقى بنفسه على الطريق.. لم يستغرق هذا المشهد أكثر من ثوان بعد صرخات وعويل من الركاب ليبدأ مشهد آخر أكثر مأساوية.

مقدمة الأتوبيس غرقت فى مياه الترعة.. وينزلق الأتوبيس لحظة بعد الآخرى ليختفى فى المياه.. ويبقى منه فقط أجزاء بسيطة تطفو على السطح وسائق ملقى على الأرض ينظر فى دهشة على المشهد.. أصوات الركاب التى كانت تصرخ توقفت.. صمت مريب يسود المكان بعد لحظات من الكارثة.

فى ثوان كان الطريق قد توقف بأصحاب السيارات التى شاهدت الحادث أوقفوا سياراتهم ونزلوا فى محاولة منهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. وعدد من المزارعين تركوا فؤوسهم ومواشيهم وأسرعوا إلى مكان الحادث.. وصياد كان على بعد أمتار من الحادث فى مياه الترعة جدف بقاربه ليكون أول من وصل إلى مكان الحادث.

(6)

لحظات الصمت تلاشت وبدأ عويل وصراخ الأهالى الذين تجمعوا بعضهم يصرخ.. لا يعرف ماذا يفعل.. وآخرون ألقوا بأنفسهم فى المياه بحثًا عن غريق أو مصاب يحتاج إلى مساعدة.. ومجموعة أخرى تحاول الاتصال بالإسعاف أو النجدة والمسؤولين.

بعد أقل من 20 ثانية بدأ عدد من الرؤوس تظهر فى المياه.. ضحايا نجحوا فى الخروج من الأتوبيس وبدأوا فى السباحة بحثًا عن «قشاية» يمكنهم أن يتعلقوا بها، وآخرون مازالوا يحاولون الخروج من نوافذ الأتوبيس.. لم تكن الرؤوس وحدها هى التى بدأت تطفو.. فكتب ومذكرات وأقلام وبعض متعلقات الركاب ظهرت على سطح المياه.. واختفت فقاقيع المياه لتشير إلى أن المياه ملأت أركان الأتوبيس.

«الصياد» ساعد عددًا كبيرًا من الضحايا فى الخروج إلى الشاطئ.. والمزارعون أمسكوا بأذرع آخرين.. ربما قد تكون الروح مازالت لم تخرج بعد.. وامتلأ شاطئ الترعة بالضحايا من المصابين والجثث.. أهالى قرية قريبة من مكان الحادث.. قرية دهروط خرجوا جميعًا لتقديم المساعدة.. أحضروا ملاءات وبطاطين لتغطية الجثث وتدفئة المصابين.

(7)

بعض السائقين لجأوا إلى نقل المصابين فى سياراتهم النقل والملاكى والأجرة إلى المستشفيات بعدما تأخرت سيارات الإسعاف.. توقف الطريق تمامًا الحديث فى تلك اللحظة لم يكن إلا عن الحادثة المروعة التى وقعت فى مياه ترعة الإبراهيمية.. كل من له قريب كان متوقعًا أن يخرج فى تلك اللحظة.. يتصل به للاطمئنان عليه.

انقلبت الدنيا فى محافظة المنيا.. وأسرع المسؤولون بوزارات الصحة والداخلية والتضامن الاجتماعى والمجالس المحلية بالانتقال إلى المكان.. وتم إغلاق الطريق لحين الانتهاء من رفع الأتوبيس وانتشال الجثث.

أكثر من 70 سيارة إسعاف اصطفت على جانبى الطريق.. فى انتظار إخراج جثث لنقلها إلى المشرحة فى المستشفيات القريبة.. وبعد دقائق كان فريق من قوات الإنقاذ النهرى، يقف على الشاطئ يبدل ملابسه لبدء انتشال الجثث بعد 10 دقائق تقريبًا تم انتشال 10 مصابين و16 جثة.. وقتها تأكد أنه لم يعد أحياء داخل الأتوبيس وأن كل من بداخله انتهت حياتهم تحت مياه الترعة الأكثر طولاً فى العالم.

رجال إسعاف وقوات إنقاذ نهرى ومواطنون عاديون وصيادون الكل يتكاتف بحثًا عن جثة قد تكون تحركت يمينًا أو شمالاً.. عدد من أهالى الضحايا كانوا قد علموا بالحادث.. وبدأ الزحام يملأ المكان.. بكاء وصراخ وعويل من أهالى الضحايا.. ودهشة وحزن من المواطنين الذين تصادف وجودهم وشاهدوا الكارثة المؤلمة.. كلما خرجت جثة من المياه يشتد الصراخ.. وتتحرك سيارة بها إلى المشرحة.. مرت الدقائق المؤلمة والساعات الحزينة.. وصل عدد الجثث إلى 57 جثة تم نقل 32 منها إلى مستشفى مغاغة العام، والأخرى إلى مشرحة مستشفيى بنى مزار ومطاى.. والمصابون تم نقلهم وبعضهم فى حالة هلع وخوف إلى مستشفى مغاغة ليكونوا شهودًا على كارثة لن تمحوها الأيام من ذاكرتهم.

جاء المساء وبدأت خيوط الظلام تغطى سطح مياه الترعة التى خطفت أرواح ضحايا لا ذنب لهم فى طريق غير مؤهل للسير عليه أو قانون لا يحمى مواطنًا بريئًا من إهمال الآخرين، كشافات قوات الإنقاذ النهرى رسمت ملامح ليوم حزين فى هذا المكان.. مازالوا يبحثون عن 7 جثث مفقودة فى المياه والأهالى ينتظرون على الشاطئ ربما تظهر جثث ذويهم بين الحين والآخر على سطح مياه قتلتهم.

(8)

أمام المستشفيات الثلاثة التى استقبلت جثث المتوفين كانت المشاهد الأكثر المأساوية.. أمهات انهرن من البكاء.. سقطن على الأرض من آلام الكارثة.. وأخوات أخفين وجوههن فى حوائط المنازل.. ودموعهن لم تتوقف للحظة واحدة.. وأصحاب احتضنوا بعضهم البعض.. لا يصدقون أن أصدقاءهم رحلوا عن الحياة ولن يجلسوا ويلعبوا معًا بعد.. وآباء تحجرت دموعهم.. يتمنون أن تدمع عيونهم ليستريحوا.