لم أندم على شىء مقدار ندمى أننى لم أسجّل هذه الأصوات. بعضها عذب، بعضها أجشّ. بعضها عميق! بعضها حزين. لكنها أثمن ذكرياتي!
«مسجد الدماطي» كان هو مسجد طفولتى المواجه لبيتنا مباشرة. ولم يكن عليّ إلا أن أتوضأ بسرعة حين أسمع الأذان، وأعبر الشارع بسرعة فأشرع فى الصلاة مع الجماعة. كانت أهم شخصية فيه هى «الشيخ أحمد». كان طاعنا فى السن، نحيف القوام إلى حد لا يُصدق. حفر الزمان التجاعيد كأخاديد فى وجهه. وكان يحب أبى جدا. ليس فقط لأنه يرسل إليه ما تيسر من رزق الله، ولكن لسبب آخر أكثر طرافة، وهو أن الشيخ أحمد كان يُستدعى إلى قسم الشرطة من آن لآخر. والسبب هوايته فى التغنى بالتواشيح قبل الفجر بساعة وأكثر! ما زلت أذكر صوته الأجش بادئا بقراءة قوله تعالى: «إن الله فالق الحب والنوى. يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى. ذلكم الله فأنى تؤفكون. فالق الإصباح وجعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا، ذلك تقدير العزيز العليم».
وكنت بمجرد أن أسمع التلاوة يخطر ببالى على الفور صورة الصبح وهو ينفلق من قلب الظلام، فأفرح وأعرف أن الصباح قادم. بعدها يبدأ المديح فى جناب حضرة النبى، صلى الله عليه وسلم. يقول بصوت ممدود وكأنه يخاطبه مباشرة:
محـمد/ صلى الله عليه وسلم. ويتغنى بالميم الأخيرة ويمدها كأنها غمامة تحمله إلى مقام الرسول الأعظم. ثم ما يلبث أن يقول بصوت طروب نوعا.
محمـد(ويمدها.. يمدها.. يمدها.. حتى تخال أنها لن تنتهي)/ خير من يمشى على قدم. (ويكسر الميم الأخيرة حتى تخال أن قلبه هو الذى انكسر).
كانت تواشيح الشيخ أحمد بصوته الأجش نوعا من الفلكلور المصرى. لكننا لم نكن ندرى ذلك وقتها. وكنا أحيانا نضيق به إذا أوقظنا من النوم، أو كنت أذاكر فى الثانوية العامة. لكن أبى كان ينهرنى إذا أبديت استياء. وكنت أحاول أن أقنعه فأقول إن من يريد أن يستيقظ للصلاة سيصحو دون هذه التواشيح. فيقول أبى فى غموض: «إنه ملكوت لا يعلم أسراره إلا خالقه».
أبى القاضى الزاهد فى متاع الدنيا. أبى الحزين الغامض الصامت، الذى يؤمن بالولاية وأسرارها. كان جيران الحى الهادئ الراقى يضجون بالشكوى ويستدعون الشيخ أحمد إلى قسم الشرطة موجهين له محضر إزعاج. فيرتجف المسكين هلعا ويلجأ إلى أبى القاضى الذى ينقذه فى كل مرة. يذهب إلى وكيل النيابة مبتسما طالبا منه أن يحل المشكلة بأن يجعل ميكروفون المسجد موجها إلى شقته. صحيح أننا لم نكن نسمع أنفسنا حين يؤذن! لكن المهم أن الشيخ أحمد سوف يخرج من الحجز، وحين يرى ضوء الشمس فى الشارع المزدحم ويستنشق نسيم الحرية فإنه يدعو لأبى فى حماس بالغ فى الليلة التالية مباشرة.
كنا نعرف جميع أخبار الحى من ابتهالات الشيخ أحمد. كان يدعو بحماس لكل من يحنو عليه ويساعده. ونعرف أيضا الراغبات فى الزواج اللواتى يدعو لهن الشيخ أحمد بـ(العَدَل).
لشد ما أشعر بالحنين لهذه الأيام السعيدة! برغم أننى لم أكن سعيدا وقتها. أو ربما كنت سعيدا دون أن أدرى. كنت أشعر دائما بشىء ينقصنى ولم أكن أدرى ما هو. لم أكن أعلم أن ديدن الإنسان هو البحث عما ينقصه. حتى إذا حازه وامتلكه عاد يحن إلى أيامه القديمة.