لا أجد شيئا أنسب لليالى رمضان الأخيرة من الرقائق. وقصة اليوم رواها لنا الزاهد العابد «مالك بن دينار». قال: حُبس المطر فاستسقينا مرارا فلم نُسقَ. فانصرف الناس وبقيت بالمصلى. فلما أظلم الليل إذا بعبد أسود دقيق الساقين عظيم البطن فصلى. ثم رفع كفه إلى السماء فقال: «سيدى إلى متى ترد عبادك فيما لا ينقصك. أنفذ ما عندك! أقسمت عليك بحبك لى إلا سقيتنا الساعة».
فما تمّ كلامه حتى أمطرت كأفواه القِرب. فخرجنا نخوض فتعرّضت له. فقلت: «أما تستحى تقول بحبك لى وما يدريك أنه يحبك؟». قال:«يا من اشتغل عنه بنفسه أين كنت أنا حين خصنى بتوحيده ومعرفته؟ أتراه بدأنى بذلك إلا لمحبته لى!». ثم بادر يسعى. فقلت: «أرفق». فقال:«أنا مملوك على طاعة مالكى الصغير». فسألت عن مالكه فقلت: «بِعْنِيه». فقال: «هذا غلام مشؤوم لا همة له إلا على البكاء». قلت: «ولذلك أريده فأشتريه». فقال العبد: «لماذا اشتريتنى؟». فقلت: «لأخدمك». فدخل مسجدا فصلى. وقال: «سرٌّ كان بينى وبينك أظهرته لمخلوق أقسمت عليك إلا قبضتنى. قال مالك بن دينار: «فإذا هو ميت».
تعالوا نعِش فى أجواء القصة. نحن الآن فى الحياة الدنيا حيث تسود قيم المجتمع الذى نعيش فيه. يتفاضل الناس بالثروة والسلطة وحسن الوجه والمكانة الاجتماعية. لا أحد يأكل مع الخادم مثلما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن هل فكرت يوما أن ترتيب الطبقات سوف يحدث له زلزال فى الآخرة؟ ووجيه الدنيا ليس بالضرورة وجيه الآخرة. وأن الذين يُدفعون عن الأبواب اليوم ربما يتقلدون غدا عقود الذهب واللؤلؤ.
ها نحن مع مالك بن دينار حين كفت السماء عن الأمطار. الضرع جف والزرع ذبل والقوم يصلون صلاة الاستسقاء مرة بعد مرة. ها هو الليل يلف الكون بردائه الأسود. هنالك يظهر هذا العبد الأسود. يصفه مالك بن دينار بما اعتدنا أن نصف به مريض الكبد فى حالته المتقدمة حين يحدث «استسقاء» فى بطنه. هزيل الساقين منتفخ البطن. فى سترة الظلام يرفع العبد أكف الضراعة إلى الله، ويدعوه طالبا منه أن يمطر العباد بفضله. بل يقسم على الله أن يستجيب بحبه له. فيا لدلال المحبين عندما يخاطبون محبوبهم الأعظم! وإذا بالسماء تمطر كأفواه القِرب. مطر غزير يتعثر فيه مالك بن دينار الذى اعتراه الذهول وخالطته الهيبة. يسأله كيف عرف أن الله يحبه؟ فيقول العبد ببداهة البسطاء إنه ما أعطاه بالتوحيد إلا لأنه يحبه.
حينئذ يتحول مالك بن دينار من شيخ إلى مريد. يذهب ليشترى العبد من سيده الأحمق الذى لا يدرى أن تحت سقف بيته وليّا. هنا يدور حوار كالذهب المسبوك بين العبد ومالك بن دينار. حوار أروع من مسرحيات شكسبير: يسأله العبد عن سبب شرائه، فيقول مالك بن دينار: «لأخدمك!». هنا يضرع العبد إلى الله أن يقبضه. لا يريد أن يصبح تاجر دين يتكسب بولايته. وتنتهى القصة بموت هذا العبد الولىّ الذى لم نكن ندرى عنه شيئا لولا أن مالك بن دينار حكى قصته.
إنهم الأتقياء الأخفياء الذين لا تدرى من هم. ربما بعضهم يخدمك اليوم ويغسل لك سيارتك. ربما بعضهن تخدم فى بيتك وتنظف خلفك. ربما هو ذلك العامل البسيط الذى يحمل حقيبتك. ربما يصبح سيدا فى الآخرة! من يدرى؟