نصر حامد أبوزيد: تأثرت بكتابات سيد قطب.. وهذه أسباب فشل التنوير في العالم العربي

كتب: رضا غُنيم الجمعة 10-07-2015 13:24

ما بين عامي 1943 و2010، عاش نصر حامد أبوزيد، في مواجهات من أجل نُصرة العقل، عُرف عنه الصمود والوقوف ضد التيار، حارب الظلاميين والمثقفين المشعوذين، تصدى للأصولية والجهل، لم يهاب الموت في أي لحظة، إذ كان يمتلك من الشجاعة ما يفوق شجاعة معظم المفكرين العرب، كل ذلك صنع منه شخصية جدلية ذات كاريزما آسرة.

«المصري اليوم» تعرض في ذكرى ميلاد «الهرمينيوطيقي الحالم»، التي توافق العاشر من يوليو، جزءا من الحوار الذي أجراه معه الروائي التونسي كمال الرياحي، الحائز على جائزة القصة القصيرة من القاهرة عام 2005، وجمعه في كتاب «نصر حامد أبوزيد.. التفكير في وجه التكفير»، الصادر عن دار «كارم الشريف» التونسية عام 2015.

حاوّر «الرياحي»، «المفكر المتمرد»، قبل أن يرّحل، وتحدث «أبوزيد» خلال الحوار الذي أُجري خلال عام كامل، حسبما يقول المؤلف، بشجاعة وصراحة وذاكرة حيّة عن طفولته وأحلامه الأولى وارتباطه بالإخوان المسلمين، والبحث العلمي والدين، وعن رؤيته المختلفة لشؤون النص وكيف رُمي بالكفر والردة، وعن التفريق بينه وبين زوجته.

الطفولة والدراسة

يحكي «أبوزيد»، في بداية الحوار، عن طفولته ودراسته، وكيف وجد نفسه باحثًا في الظاهرة الدينية والفكر الإسلامي بدلًا من أن يكون شيخًا أزهريًا أو متخصصًا فنيًا لاسلكيًا، قائلًا: «كان حلم الأب أن أواصل تعليمي في الأزهر بعد أن حفظت القرآن في كُتاب القرية، وتبين للأب أن المسار طويل، والعمر قصير، فتحوّلتُ إلى التعليم المدني، ثم ازدادت وطأة المرض على الأب، وأنا على أبواب امتحان الإعدادية، فقرر أن ألتحق بالتعليم الفني، وحسنًا فعل، فقد وافته المنية في 24 أكتوبر 1957، أي في بداية العام الدراسي، هذا مكنني من الانخراط في المسؤولية التي وضعتني فيها الظروف – مسؤولية الابن الأكبر – بعد الحصول على الدبلوم والعمل فنيا لا سلكيا، كانت القراءة متعتي الوحيدة ونافذة التواصل مع العالم لكسر وحدة (اليُتْم)، كتبت الشعر وحاولت كتابة القصة، لكن نهم القراءة ظل هو الحاكم، لم يفارقني حلم الأب، لكنه صار حلمًا من نوع آخر انتهى بي إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان هدفي قسم الفلسفة».

تخرج «المفكر الراحل» من الكلية عام 1972، ثم ظل 5 سنوات يُحضر للماجستير بعد السنة التمهيدية، ثم 4 سنوات للدكتوراة.

يقول «أبوزيد»: «كانت خطواتي متأنية سعيًا للإجادة، كثيرون من أقراني سبقوني كثيرًا في الإنجازات حتى صاروا رؤسائي الإداريين، لم أكن متعجلًا، السنوات المشحونة اجتماعيًا وفكريًا وسياسيًا تبطئ من إنجازاتك بحكم الانشغال بالهم العام، فقط هؤلاء الذين لا يعنيهم الشأن العام يخطون بسرعة».

دراسة الفكر الديني

تحوّل «أبوزيد» من دراسة اللغة العربية إلى دراسة الفكر الديني، وكان هناك سبب في ذلك، يحكي هو عنه بقوله: «في دراسة الفلسفة، أصابني الإحباط من أول محاضرة، فقررت الالتحاق بقسم اللغة العربية، وعندي تصميم بحكم قراءاتي في الأدب أن أتفوق فأكون معيدًا، ثم أواصل دراستي العليا حتى الدكتوراة، لأكون أستاذًا، قراءتي في الفكر الديني قبل الجامعة كانت لا بأس بها بتأثير فكر الإخوان المسلمين، الذي تأثرت به في صباي الأول، كتابات سيد قطب ومحمد قطب بصفة خاصة، كنت مفتونا بكتابات القطبين عن القرآن والفن، وتفسير سيد قطب (في ظلال القرآن) كان مدهشا ومذهلا بالنسبة لي، إلى جانب فكر الإخوان كنت قارئا نهما للعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ، كما كنت على وعي بالأزمات التي أحدثتها بعض الكتب الجسورة مثل كتاب علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، وكتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي)، بل وعاصرت أزمة خالد محمد خالد في كتابه (من هنا نبدأ)، كل هذا غير توجهاتي فقررت أن أكون ناقدًا أدبيًا».

ويضيف: «ما لا يعرفه الناس، أن مجلس قسم اللغة العربية هو الذي أعادني إلى الاتجاه الأول: أعني دراسة القرآن من مدخل الأدب، حيث قرر مجلس القسم أنني يجب أن ألبي حاجة القسم إلى متخصص في الدراسات الإسلامية، وألا أبحث لنفسي عن عمل آخر، شرحت لمجلس القسم مخاوفي من الدراسات الإسلامية فلقيت نوعين من رد الفعل: تطمينات بأن ما حدث في الماضي كان سببه خلافات شخصية بين الأساتذة (طبعا هذا كلام لا يقنع أحدًا، فطرحت التساؤل: ما الذي يضمن عدم تكرار هذه الخلافات في المستقبل؟)، وهنا لقيت رد الفعل الساخر: أتظن أنك ستأتي بما لم يأت به الأوائل؟، كان ردي: أليس هذا هو ما يجب أن أفعل، أليس هذا معنى البحث العلمي».

دمج «نصر» بين الأدب والفكر الديني في دراسة الماجستير حول قضيّة «المجاز في القرآن عند المعتزلة»، ثم في رسالة الدكتوراة أعد دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي، وهي المساحة التي اعتبرها البعض في مصر «محظورة، لا يجوز العبث داخلها»، لكن الراحل أصر على استكمال طريقه.

يقول: «كنت واعيًا للمخاطر، لكنني كنت في نفس الوقت مدركًا لضرورة التعامل مع أسئلة من نوع طبيعة النص الديني، وحدود قابليته للتأويل وضوابط هذا التأويل، انبثقت الضرورة من حقيقتين: النتائج التي توصلت إليها في أبحاثي عن تاريخ التأويل في بعديه اللاهوتي والصوفي، وهي نتائج كشفت عمليات التلاعب الدلالي في إنتاج المعنى، والحقيقة الثانية أن المعنى الديني في الواقع المصري العربي الذي عشته في عقدي الستينات والسبعينات كان موضوعا لتأويلات شتى من الاشتراكية والقومية إلى الحاكمية والإسلاموية، وكان السؤال الجوهري الذي انبثق في (مفهوم النص) هو ماهية القرآن ومنهجية مقاربته، وفي تصوري أن التلاعب الدلالي ممكن في حالة عدم تحديد ماهية النص تحديدًا يعتمد على الحقائق التاريخية والثقافية التي تولدت في رحمها النصوص، حين أقول تولدت في رحمها أفترض أن القارئ يفهم أنني لا أنكر إلهية المصدر، مفهوم البذرة أو البذور التي تتولد في رحم التاريخ والثقافة يحيل إلى الجدل الإلهي الإنساني في عملية الوحي وفي صياغة المعنى، لا زلت متيقنا أن تحقيق إصلاح فكري جوهري في الفضاء العربي الإسلامي غير ممكن دون الدخول في هذه المناطق، إنها محظورة لأنها تهدد عروشا سياسية واجتماعية وثقافية كثيرة، لكنها ضرورية لتحقيق نهضة مستدامة».

التكفير

التكفير كان مصير نصر حامد أبو زيد، شأنه شأن أي مفكر يقتحم تلك الأماكن المحظورة في بلد يتميز شعبه بالتدين الفطري، كما جرى الحكم عليه بالردة، وتفريقه عن زوجته، وحُرم من درجة الأستاذية.

يوضح «أبوزيد»: «قصة التكفير لا يمكن فهمها خارج سياق مناخ الاحتقان السياسي والثقافي الذي غلَّف الأجواء المصرية منذ بداية الثمانينات بعد اغتيال الرئيس أنور السادات، في وضّح النهار، وتحت وميض كاميرات الإعلام في احتفال مصر بيوم انتصارها، ازداد الاحتقان في التسعينات بعد أن طالت يد الإرهاب قيادات سياسية في قلب القاهرة، وساعد مناخ الفزع الحكومي من الإرهاب في توسيع سلطة الفكر الديني الذي يؤيد النظام، ويدين الإرهاب بلاغيًا، وامتدت يد الإرهاب للمثقفين فاغتيل فرج فودة، وتم الاعتداء على نجيب محفوظ، وانقسم المجتمع الثقافي إلى معسكرين متنابذين، وسط هذا المناخ جاء موضوع الترقي واستطاع تقرير غير علمي أن ينال موافقة اللجنة العلمية ضد تقريرين إيجابيين، ولم يكن هذا ليقع في مناخ أكاديمي طبيعي لم تلوثه ضغوط الإرهاب، الذي صار فزاعة النظام السياسي والإداري في مصر كلها ضد أي نقد، فتحوّل موضوع الترقي إلى معركة قرر خصوم حرية الفكر حملها إلى القضاء، في ظل غابة القوانين والتشريعات في النظام القضائي المصري تمت صياغة مسألة التكفير والحكم بالردة».

وتطرق صاحب أشهر قصية ردّة إلى الحديث عن تنامي ظاهرة التكفير، حيث يرى أن «تنامي ظاهرة التكفير واستفحالها يعني -وهذه مفارقة ساخرة- أنها تفقد خطورتها، تنامي ظاهرة مصادرة الكتب واللوحات والأغاني وإغلاق الصحف والمجلات نكتة غير مضحكة في عصر الإنترنت والسماوات المفتوحة، كل هذا يعني أن الظاهرة تتفكك، وهذا ما يفسر حالة الهياج، والسعار في دوائر من تسميهم المرتزقة، والذين لا يكفون عن الصراخ في فضائيات الارتزاق، لكن يجب أيضًا أن أنبه إلى الظاهرة المقابلة، ولا أقول النقيضة، وهي صراخ المرتزقة الحداثيين، أو بالأحرى مدعي الحداثة في نفس الفضائيات».

رفض «أبوزيد» نطق الشهادتين أمام المحكمة، مبررًا ذلك بأنه «لا يريد أن تكون للمحكمة سلطة تفتيش في قلوب البشر»، لكنه نطقها في محاضرة خارج مصر.

يقول: «مسألة نطقي الشهادة في أول محاضرة ألقيتها بعد رحيلي من مصر عام 1995 كان المقصود منها توصيل رسالة إلى الجمهور الغربي بأنني لست ضد الإسلام، كما قد يتوهم البعض، قلت: إذا كنتم تحسنون استقبالي وتحتفلون بي ظنا منكم أنني أنقد الإسلام من منظور المرتد فقد أخطأتم العنوان، ثم نطقت الشهادة».

التنوير

وتحدث المفكر العلماني عن نجاح التنوير في الغرب، وفشله في الشرق، وقال إن «التنوير نجح في الغرب بسبب استقلال المثقف واستقلال الفكر عن أن يدور في فلك أي سلطة، التنوير في عمقه هو تحرير العقول من كل السلطات (سياسية واجتماعية ودينية)، وليس معنى تحرير العقل تدمير هذه السلطات، بل تحجيم مجال تأثيرها، من هنا ارتبط التنوير في تطوره بإبداع سلطات موازية لتحجيم تغول السلطة السياسية مثل السلطة الرقابية والتشريعية – النابعة من ممثلي الشعب غبر تطوير آليات الديمقراطية – والسلطة القضائية المستقلة والسلطة الرابعة، سلطة الرأي العام المتمثل في الصحافة والإعلام، وهي أهمها، من هنا إقرار مبدأ الفصل بين السلطات، كل هذا لم يتحقق في مجتمعاتنا، ما زالت السلطة السياسية تتغول على باقي السلطات، وأحيانًا تحولها إلى مجرد أبنية وهياكل وظيفية، الصحافة والإعلام في قبضة الأنظمة السياسية أو في قبضة المال الذي أصبح جزءًا جوهريًا من السلطة، المال في العالم العربي ليس نتاج العمل، بل هو إما نتاج الأرض (البترول) أو نتاج السمسرة، كل ذلك يكشف عن بعض أسباب الخلل في البنى التي يمثل التنوير تهديدًا لاستمرارها، فلا تبخل بأي جهد يقتله، أو يخنقه، أو يحاصره وهذا أضعف الإيمان في ظل العولمة التي تكشف عن بعد كل الأسرار».

ويرى أنّ «المثقف يجب أن يحتفظ بمسافة عن السلطة، حتى لو كان النظام السياسي يتبنى بعض الأفكار التي يتبناها المثقف، فهذه المسافة هي التي ستسمح له بالاستقلالية التي تحميه من ضرورة تبرير قرارات السياسة أو الدفاع عنها».

المقاومة والدين

ورفض «أبوزيد» ربط المقاومة بالدّين على مرّ التاريخ، وقال إنه «في التاريخ القريب، حارب المصريون الاحتلال الإنجليزي بمسلميهم وأقباطهم، وخاضوا كل الحروب ضد إسرائيل معًا، وعدد الشهداء من الجانبين يشهد بذلك، منظمة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية نشأت منظمة مقاومة دون أي يافطات دينية، وجود شعار الجهاد لم يكن يعني المعنى الديني السائد الآن، التصدي لإسرائيل برفع شعارات دينية مهدد بالفشل، لأن أساطير التوراة جزء مؤسس في السرديات الدينية الإسلامية والمسيحية، إسرائيل – من جهة أخرى – تؤسس وجودها توراتيا وتحميه بالعقل والعلم (عناصر القوة في العصر الحديث)، يؤلمني عدم قدرة حزب الله على عقلنة السرديات الشيعية، رغم قدرته العسكرية العلمية على التصدي للعدوان الإسرائيلي، عقلان وذهنيتان، أؤيد إحداهما وأتصدى بالنقد للأخرى».

لم يهاب «أبوزيد» الموت ولو للحظة واحدة، رغم أنه تلقى تهديدات كثيرة، موضحًا أنه غادر مصر لحماية « الباحث» من التورط في سجالات عقيمة عن «الكفر والإيمان»، مضيفًا: «لم يكن صعبًا عليَّ أن أضحي بدور المعلم لحماية دور الباحث، بعد أن صار مستحيلا الذهاب للجامعة يوميًا تحت الحراسة».

وصيّته

لكل إنسان وصيّة يريد الآخرون تنفيذها بعد وفاته، ونصر حامد أبو زيد أوصى بشيء واحد: «اكتبوا على قبري: هنا يرقد أحد الحالمين بمستقبل أفضل.. أيها الزائر قبري لا تكف عن مواصلة الحلم».