أما قبل، فقد خطَّطت للأسابيع التى يغطيها هذا الشهر الكريم أن أتحدث عن أشهر الصوَّام فى ممالك الحيوان، التى هى أمم أمثالنا، لا أشك فى ذلك، هادفا أن نتأمل أعاجيب هذا التصميم العظيم للمصمم الأعظم، رب الكون والكائنات جميعا، لا دروشة، ولا تجارة بالدين فى الدنيا صارت رائجة، ولكن لإيمانى أن ثمة رسائل ينطوى عليها كل تصميم عظيم فى الكون والكائنات، فينا ومن حولنا، وهى رسائل يمكن أن تضىء كثيرا من أمورنا الخاصة منها والعامة، وكنت قد أعددت لذلك عشرة ملفات لعشر كائنات تصوم، متصورا أن أنثرها بإيجاز على مدى أسابيع الشهر الكريم، لكننى بالكاد أوجزت أولها عن هجرة «الفراشات الملكية» فى صفحة، ثم دخلت عالم «أسماك سلمون المحيط الهادى» وأسطورة عودتها الاستشهادية صائمة إلى أوطانها، فلم أخرج منه، وإن كان ما أوردته يكرر إثبات أن الارتباط بالأوطان فطرة سوية، قوية، فطر الله كل مخلوقاته عليها، ومن ثم يكون جحودها مجافيا لسوية الفطرة، بكل أشكال الجحود التى عانينا ونعانى منها الكثير، وليس بخارجٍ عنها تنظيرات موت الدول الوطنية لصالح مزاعم الإمبراطوريات، والعولمات، والدوليات، والخلافة، وهذه الأخيرة يستحيل أن تعود رشيدة بكل هذا الجنون الوحشى الذى نراه من دعاتها جاحدى سوية الفطرة، لكننى وأنا أدين ذلك الجحود لا أستطيع السكوت عن جحود موازٍ، يشوه الأوطان بالفساد والإفساد، أو بسوء الطوايا أو سوء الإدارة، فيضل عنها أبناؤها المشدودون إليها بقوة الحنين، أو يُضيِّع فيها أبناؤها المرابطون بقوة الرضا والإخلاص للعِشرة.
ملف ظل يكبر حتى بات فى حاجة إلى كتاب عن أسطورة هذه الأسماك وحدها، لكننى أتوقف فيه عند هذا الحد. مستئذنا فى إجازة لأسبوع واحد، يواكب خَمِيسُه وقفة وعيد الفطر المبارك، أعاده الله عليكم وعلى وطننا بالخير والطمأنينة والأمان. لنلتقى فى استئناف جديد، قد يكون مختلفا، ولا بد أن يكون مختلفا.
من يُشرِّد الكيميائى الصائم؟!
■ يمكننا القول دون مبالغة إن أسماك سلمون المحيط الهادى فى دورة هجرتها الحياتية من مياه الوطن العذبة فى منابع الأنهار العالية والبحيرات إلى مياه المحيط المفتوح المالحة ثم العودة إلى الوطن، تمارس دورين فى الاهتداء إلى طريقها، فهى تُبحِر فى المحيط مهتدية بأدوات فيزيائىٍّ قدير، وتمضى فى الأنهار بأدوات كيميائىٍّ بارع. ففى المحيط الذى لاعلامات مرشدة فيه تبحر مهتدية بحزمة من أدوات الملاحة الفيزيائية حتى تجد طريقها إلى مصب النهر الذى يوصلها إلى بيت نشأتها الأولى، ومن هذه الحزمة بوصلة شمسية تعمل فى النهارات الصافية على الاهتداء بتغيرات ضوء الشمس المنعكسة فى الماء فتُحدِّد مواقعها وسير الإبحار فى النهار، أما فى الليالى، الصافية كذلك، فهى تهتدى بضوء النجوم المنعكس على الماء ببوصلة مشابهة، كما أثبت العلماء حديثا أنها تستخدم الفرز الدقيق لتفاوتات المجال المغناطيسى للأرض فى تحديد طريقها فى الماء،وهذا يفسر نجاحها فى سلوك المسار الصحيح فى النهارات والليالى الغائمة، وهى بكل هذه الحزمة من الأدوات الملاحية فى تكوينها الحى تُبحِر فى المحيط كفزيائىٍّ أريب.
■ أما فى النهر الذى سيوصلها إلى هدفها النهائى وهى تصعد سابحة ضد تياره الجارف الهابط، لتصل إلى أماكن مولدها ومولد آبائها عند منابع النهر العالية الصافية والبحيرات الوادعة، حيث تتزاوج وتستودع ذريتها وتموت، فإنها تهتدى إلى طريقها بحاسة الشم الفائقة لديها والتى يزيدُها إرهافا ذلك الصوم المطلق الذى تدخله متى ما ولجت المياه العذبة، فهى فى هذه الحالة تعرف أى فرع تسلك وأى عائق تجتاز، بأدوات كيميائىٍّ حاذق يستطيع أن يسير على هدى «خريطة شمية» طُبعت فى ذاكرته أول ما رأى النور، ليصل بها بعد سنين إلى المكان الذى رأى فيه النور لأول مرة عند خروجه من البيضة، فهى خريطة كيميائية تُبيِّن بدقة خصائص الوطن المائى تبعا لأنواع المعادن الموجودة فيه، وجزيئات النباتات المتحللة، ورائحة الهائمات والسابحات وغيرها، بدقة تفوق حاسة الشم لدى الإنسان بمئات المرات، فتصل إلى نتائج لا احتمال للخطأ فيها، حتى لو بلغت تخفيفات هذه المكونات فى الماء جزءا من جزء من المليون. فلماذا يتوه بعض سلمون المحيط الهادى فى هذا الجزء الحميم من رحلة عودته فى مياه الوطن العذبة، وهو يمتلك قدرات ملَّاح كيميائى مذهل البراعة يُضاعف الصوم براعته، فالصوم يمنع جزيئات أى طعام من الوصول إلى طبقة خلايا الإبيثيليوم المبطنة لمدخل جهاز الشم، فيستبعد التشوش عند تحليل ما يلامس هذه الخلايا كروائح فى المخ. لماذا يتوه؟
■ وحتى لا نضل ونحن فى الطريق للإجابة عن سابق السؤال لا بد من معرفة أن سلمون المحيط الهادى ليس نوعا واحدا، فثمة خمسة أنواع من هذا السلمون بينها نوع لم ير المحيط الهادى أصلا ورفض منذ البداية إغراء الهجرة إليه، ظل عائشا فى بيئته الأولى من مياه الأنهار والبحيرات العذبة، ينمو فيها ويتكاثر وتتعاقب أجياله على نهجه الزاهد، قانعة بالمقسوم لها فى الوطن، وهو قليل لكنه كاف لحياة متواضعه، إنه سلمون «الكوكانى» kokanee، الذى يشبه السلمون المهاجر إلى المحيط فى احمراره وتغيرات جسمه عند التزاوج، لكن نتيجة رضاه بالقليل المُتاحفى وطن المياه العذبة التى يعيش فى روافدها كامل حياته، صار أصغر حجما من نظيره السوسكاى sockeye الذى يغترب فى المحيط، فبينما يبلغ أقل طول لسلمون السوسكاى المهاجر 20 بوصة، يكون عند الكوكانى المقيم 8 بوصات. صغير وفقير وراضٍ بقليله، وجائزة رضاه أنه لا يعانى جنون ذلك الحنين الحارق إلى الأوطان، ولا يتجشم عناء رحلة العودة الطويلة المريرة، فهو يعيش قانعا فى وطنه، ويموت فيه راضيا لم يتشرد. وإن كان هناك من يصر على تشريده!
■ من أنواع سلمون المحيط الهادى أيضا سمك «الشينوك» Chinook ويلقبه الصيادون «ملك الأسماك»، لمَ لا؟، وهو كنز يغترفون منه بسهولة عند عودته للتزاوج فى مجرى الأنهار الكبرى كنهر كولومبيا، معترضين طريقه فيما يكون مُنهَكا وسهل الاصطياد، ثم إنه أربح فى التجارة من سلمون السوسكاى لأنه أكبر حجما وألذ طعما للآكلين.
وهناك أيضا سلمون الكوهوcoho أو السلمون الفضى الذى يتكاثر فى الغُدران الفرعية من الأنهار العذبة ضعيفة التيار، وقد انقرض فى مقاطعة أوهايو عام 1986 بسبب إقامة « المشاريع الكبرى » من سدود عملاقة على «نهر سناك » snake، فاضطر الأمريكيون وقد أفزعتهم مصيبة انقراض هذا الفضى الجميل، إلى وضع نوعى السمك المهاجر الآخرين، من السوسكاى والشينوك، تحت مظلة الحماية البيئية، لكن هيهات، فهذه الأسماك أيضا تتناقص أعدادها، وتتزايد نسب ضلالها عن الوصول إلى مواضع تزاوجها وتفريخ الذرية، منضمة إلى قائمة ما يسمى «السمك الشريد» stray fish الذى يُغيِّر مواضع توالده مضطرا، مما ينذر بعواقب لا يُعرف مدى تأثيرها السلبى عليه، وعلى البيئة التى تؤويه، ويُقدَّر أن ثلث سلمون «الشينوك» يتوه فى الأنهار حين عودته من المحيط للتفريخ فى أوطانه الأم التى لايصل إليها، فإما أنه لايتزاوج، ولا يترك ذرية فتقفر من نسله هذه الأوطان، أو أنه يستوطن أماكن جديدة، بثمنٍ غالٍ يدفعه من معاناته فى الغربة، ومن متغيرات وراثية تلحق بأجياله المستقبلية التى يبذرها فى الاغتراب. فلماذا تتوه هذه الأسماك وتتشرد؟!
■ العالِم المجرى الموسوعى «فاركاس هنريك» والذى يعمل فى مجالات فيزياء الديناميكا الحرارية ويُعتبر أحد أعلامها الأوربيين، شُغف بعلم بيولوجية سلوك الحيوان، وألف فيه كتابا رشيقا عميقا عن الهجرات فى عالم الحيوان، ذكر فيه هذه التجربة: «اصطيدت مجموعة من السلمون كانت تسبح باتجاه أعلى النهر، أى بالاتجاه المعاكس للتيار المائى، وثُبِتَّت علامة خاصة بكل فرد من أفراد المجموعة، وسُدَّت الفتحات الأنفية لبعض أفرادها، فحُرِمت من حاسة الشم. ثم تُرِك جميع أفراد المجموعة الخاضعة للتجربة فى الجزء السفلى من النهر، واتضح فيما بعد أن أسماك السلمون التى سُدَّت فتحات أنوفها، أى التى لم يكن بمقدورها التعرف على رائحة المياه، قد ضلَّت عن مواطنها، واضطرت للعودة إلى النقطة التى بدأت منها أول دخولها فى المياه العذبة. وفى الوقت نفسه فإن جميع أسماك السلمون التى لم تُسدُّ فتحات أنوفها قد وصلت بدقة وسلام إلى المكان الذى رأت فيه النور لأول مرة».
■ هذه التجربة بقدر مافيها من تأكيد على الحساسية الفائقة لجهاز الشم عن السلمون كأداة مِلاحية كيميائية مرشدة إلى المسار الصحيح، بقدر ما تشير إلى أن «ضلال» العائدين بكل هذا الحنين الاستشهادى إلى مواطنهم الأصلية، يمكن رده إلى تضليل حاسة الشم نتيجة متغيرات ضخمة وقاسية فى كيمياء رائحة الأوطان، وإذا استبعدنا فساد حاسة الشم لأسباب ذاتية عند «من لا يشمون رائحة أوطانهم» أو أى رائحة حميمة، نتيجة إصابة فيروسية أو طفيلية للخياشيم وجهاز الشم أو أية أسباب أخرى، يتبقى أن هناك تغيرات «سلبية» مستجدة فى بيئة المياه عطلت أو أربكت حاسة الشم الفائق لدى هذا السلمون الصائم العائد.
■ لقد حدث أن الانفجارات البركانية الكبيرة فى شبه جزيرة «آلاسكا» أدت إلى تلوث النظم البيئية للأنهار التى يُفرِّخ فيها السلمون العائد من المحيط بأكداس من الرماد والحطام التى دمرت موائل التفريخ، ومن ثم تغير التركيب الكيميائى لهذه الأوطان المائية ولم تعد تطابق الذاكرة الكيميائية التى يختزنها السلمون منذ مولده وتظل معه حتى منتهى نضوجه، والنتيجة أن العائد يفشل فى شم رائحة وطنه، فيحيد عنه ويتشرد، فإما أنه يموت فى تشرده دون أن يتزاوج أو يترك ذرية، أو أنه يلوذ بموائل أخرى غريبة، قريبة أو بعيدة، ليكمل فيها دورة حياته ويواسى بها لوعة حنينة، ومع تكرار التيه وتعاقب الأجيال تُقفِر من بنيها موائل الأوطان التى تلوثت، وقد تنتشر فيها أسماك أخرى رديئة أو مشوهة تناسب بيئة التلوث، فيما يتحول العائدون حنينا من سكان هذه الأوطان الأصليين إلى سلمون «شريد» بالتعبير التقنى للظاهرة، أو مغترب بالتعبير المجازى. وهما تشرد واغتراب مربكان للبيئات المستجدة، وللاجئين إليها فى الوقت ذاته.
■ المدهش فى ظاهرة تشرد أسماك سلمون المحيط الهادى العائدة الصائمة هذه أن السمك الكبير يضل عن وطنه أكثر من الصغير، ربما لأن ذاكرته الكيميائية الشمية قد ثبتت وتأصلت وصارت صارمة فى تطبيق ما لديها على ما يستجد فتراه غريبا، بينما هى لدى الشباب مرنة وسطحية أكثر، وهنا تتحول الظاهرة لدى الأجيال الشابة إلى نسيان وانعدام إحساس بحميمية ما كانت أوطانا للأهل والأجداد، فيما ينتهى الأمر بالكبار إلى التشرد كَرها، ثم الموت المُبكِّر نتيجة الحسرة على ضياع الأوطان وعدم القدرة على « الاندماج» مع مكونات البيئات الجديدة. أما فى الأفق، فعلينا أن نتوقع «صراعات عرقية» محتمة بين الوافدين إلى الموائل الجديدة وبين من يعتبرون أنفسهم أصحابها الأصلاء. أى مستقبل هذا يمكن أن تصنعه أمم من المصطرعين علنا، أو فى الخفاء؟
ألا لعنة الله على كل من يشغب على فطرة الوطن، كما على من يُفسد أو يشوه صفاء وعدل ورحمة الأوطان.
إهداء إلى أرواح الشهداء
وإنى لأهدى كل ما أوردته من مآثر صوم الكائنات حنينا ووفاءً لأوطانها، إلى ضباط وجنود جيشنا الوطنى الذين يخوضون عنا نحن المدنيين العُزَّل حرب هوية ووجود، وأختص بإهدائى ابن الإسماعيلية البطل المجند أبنوب صابر الذى أحبط هجوم سيارة مفخخة غادرة فافتدى زملاءه بحياته، وكذلك البطل المجند ابن المنصورة البسيط البار، عبدالرحمن متولى رمضان، الذى ظل صائما يقاتل توحش الجنون وفساد الفطرة وخِسة الجحود، فى معركة سيناء الأخيرة، وهو مصاب برصاصتين، إلى أن أردته الثالثة الغادرة، ومن الطبيعىُ والصادقٌ للغاية، أنه كان يبتسم وهو يستشهد، فقد أدى واجب الفطرة السوية، التى يشغب عليها المُشوَّهون مشوِّهو الأوطان من كل حدب وصوب. وفى الوقت نفسه، أرفض أى إهدار فى حقوق المواطنة وحقوق الإنسان لأى مصرى مهما كان اختلافه فى الرأى مادام سلميا ولا يحض على العُنف أو يدعمه.