من بعد مديحى فى حبيب الصحابة
أشد القوس ع الربابة
يا عينى آه..
آه يا عينى يا ع الغلابة
يابوى يابوى يابوى يابابا
جرح الغلابة تَوِّه طبابة
قال الراوى:
«أبنود فرازة رجالة»، أطفالها يولدون كبارا، يرضعون المسؤولية مع ما تيسر من لبن الأم، والطفل المترف هو من يعول نفسه وفقط، وقد تعلم عبدالرحمن منذ استطاع الوقوف على قدميه أنه مسؤول عن أمه وجدته ست أبوها، دون أن يشكل عليه ذلك أى نوع من العبء أو الضغط، بالعكس كانت هذه المسؤولية هى ألعابه الطفولية التى تسعده وتزجى وقت فراغه، كما كانت المدرسة الأولى التى تعلم فيها أهم وأبقى دروس الحياة.
وقال عبدالرحمن: كانت أبنود تنضج ثمارها بسرعة إجبارية، فلم يكن أمام الأطفال فى هذا الشريط الضيق المنسى بين الجبل والنهر إلا أن يديروا عالمهم الفقير فى كل شىء حتى الأحلام، فأحلامهم لم تكن تتجاوز الفوز بوجبة شهية من لحم عصفور يقضون الساعات فى صيده بفخ بدائى يسمى «القلاب»، أو سمكة يصطادونها بالسنارة التى يشترونها من كشك عم عزب القعيد.
«فيها إيه تشبعك؟
جاتك ضربة تسرعك»
قالها محمد مصطفى ابن عم عبدالرحمن وهو يعلمه «درس الشبع»: هتعمل إيه بعصفورة واحدة يا رمان؟، الراجل اللى ناوى يهجر بتاوته يعمل حسابه على ست سبع عصافير.
كان عبدالرحمن قد جلس ذات عصرية، بجوار السور الخلفى فوق سطوح بيت قنديل، حيث كانت الشمس الذهبية، تغازل ثمار الرمان فى جنينة غزالى، فى ذلك اليوم استولى عليه «هوس الرمان»، كان يريد أن يلمس قشرته الحمراء، ويغرس أسنانه فيها، لاشك أنها طرية وباردة، وأحلى من تمر نخلة الزنان فى كرم جده، النخلة التى طالما حذروه منها، لأن الدبابير تسكنها، وعندما سألهم عن السر وأجابوه، شعر بالصدمة، لأن النخلة لم تكن وكرا للشر، بل كان تمرها ينز عسلا، فتتلهف الدبابير عليها.
وذات ظهيرة قائظة، والكل هاجع يتحاشى القيالة، تسلق عبدالرحمن سور الزرب، وانزلق إلى جنينة غزالى، وقطف ثمرة رمان، وقضمها بفمه، فسال دمها الأحمر على شفتيه كالسحر، وكأن مساً من شياطين الطمع أصابه، فتحول إلى «قاسم» فى مغارة الأربعين حرامى، وحزم خصره بذيل جلبابه، وملأ عبه بالرمان، حتى لم يعد قادرا على الحركة بسهولة، فالرمان ثقيل، وهو نحيف، وبينما يحاول الخروج «جبده» منسى ابن صاحب الجنينة، وكان فارعا وبدينا للدرجة التى رآه فيها عبدالرحمن ماردا مخيفا، فأخذ يصرخ فى هلع: أمااااااا.. ستيييى.. أماااااااا..
وتم تخليص عبدالرحمن من أول ورطة إغواء، ولكن مقابل فضيحة قدمته لنفسه ولأمه باعتباره «لصا» على غير الحقيقة.
والدليل أن الواقعة كانت إغواء وليست سرقة، هو أن طه غزالى حضر بنفسه بعد أذان المغرب، ومعه كل ثمار الرمان التى قطفها عبدالرحمن، من دون أن تنقص واحدة، وفرطها من مقطف خوص أمام «ست أبوها» كهدية حلال للولد.. هوه اسمه إيه؟
هكذا سأل طه غزالى بتودد، فأجابت فاطنة من الداخل قبل أن ترد ست أبوها: اسمه رمان...، والتصق اسم «رمان» بعبدالرحمن، ليس باعتباره وصمة عار، ولكن باعتباره ذكرى لأول واقعة غرام سقط فيها العاشق فى فخ الإغواء.
الفخ.. يا له من «قلاب» كبير، لا يكتفى بالعصافير فقط، فلكل كائن فخه، ولكل كائن ثمرة الإغواء التى تجذبه إلى الفخ، والعصفورة يكفيها حبة قمح أو ذرة عويجة.
هكذا نجح رمان فى اصطياد خمسة عصافير فى نهار واحد من أرض المرعى، ولم يكن الفقر فى وفرة الطعام وفقط، بل فى كل شىء، حتى إن محمد مصطفى علمه فى ذلك اليوم أن يذبح العصافير بسلخة من قشرة عود الذرة، يتم شدها بطريقة معينة تجعل حافتها أكثر حدة من موس مراد الحلاق، كما علمه تسخين الماء فى الشمس طوال فترة الصيد، ثم وضع العصافير بعد ذبحها، لتسهيل نتف ريشها، ثم شق بطنها بسكين الذرة الجافة، واستخراج الأحشاء، ثم غسل العصافير مرة أخرى فى الماء الساخن، وبعد ذلك يمكنه أن يختار بين سلقها فى الماء، أو شويها على «راكية» من فروع الشجر الجافة، وفى المرة الأولى اختار محمد مصطفى الشواء، وظل رمان محتفظا برائحة وطعم ذلك الشواء الذى سكن ذاكرته إلى الأبد منذ ذلك اليوم.
وكان صيد السمك هو المسار الثانى لنزوة التمرد على خبز «البتاو» الجاف، وأكلة «الشلولو» الماسخة، التى كان عبدالرحمن يشارك الأطفال فى صنعها من الملوخية الجافة والليمون والملح، فتخرج بلا طعم، ولم يكن هناك أسوأ منها إلا طبيخ نبات «الحارة» المرّ التى كانت فاطمة قنديل تقضى الساعات فى محاولة نزع مرارته الفظيعة، وطبعا كان محمد مصطفى الشهير فنيا باسم (أحمد سماعين) هو المعلم الميدانى، ليس لطريقة صيد السمك وفقط، ولكن لفلسفة الصياد فى التعامل فن الصيد نفسه، ومع كل سمكة حسب نوعها وثقافتها.
ومن أهم الدروس التى ألقاها محمد مصطفى على التلميذ رمان: السمكة التى تفلت منك لا تنشغل بها، ولا تطاردها، لأنك قد تدفع حياتك ثمنا لهذه المطاردة، فقد تندهك مثل النداهة أو «حمار الليل»، فتسقط فى النهر وتغرق، ولا تجد من ينقذك.
المأساوى فعلا أن المدرس هو الذى وقع فى المحظور وخطفته نداهة أخرى.
وغدا نحكى.