السيرة الأبنودية يرويها جمال الجمل: «الولد الموعود» يبدأ رحلة الحصول على «الكنز» فى أبنود

كتب: اخبار الأحد 05-07-2015 11:17

من بعد مديحى فى نبى عربى

نوره على البدر غالب

اسمع كلام شعرى إذا كنت راغب:

لما حطيت قدمى فى الدنيا

قابلونى بالمراحب

تاريها الغرورة مالهاش من صاحب

أيام قلابة ودنيا تسوى العجايب

وقف عبدالرحمن يقرأ بيان حاله قبل الزمان بزمان، وأنشد يقول:

«الدنيا.. ريح وغيوم/ الدنيا.. موت وسموم/ ولا حد سامع/ صرخة المظلوم/ ولا أنة المهموم/..../ أطفال فى لون الجوع/ صوت النفس مسموع/ أطفال شبه وضلوع/ أما أنا/ فاتسعت الرؤيا/ وبصيت للمسا/ وللحياة المتعسة/ وللنسايم المنعسة/ وقلت ورا سقراط:/ دنيا فى هيئه خنفسة/ ما أتعس الإنسان/ ما أسعد الحيوان».

قال الراوى:

كان عبدالرحمن يدق أبواب الحياة، جنينا حزينا على ظهر مركب، تضغط أمه على عضلاتها وأنينها كى لا ينفرط صوت المولود القادم فيملأ الخلاء الواسع، ويقف أبوه الشيخ شامخا مثل «قلع» أبيض عملاق، لا ينحنى مهما بكت المراكب.

ولد عبدالرحمن على عتبة دار قنديل، ليظل العمر كله مثل مسيح خرافى يحمل الشوك تاجا أبديا، قدمه اليمنى مغروسة فى لحم الدار.. وتراب أبنود، وقدمه اليسرى تسرى فى أرض الله الواسعة لتستقر أخيرا بجوار قنديل الكبير فى السويس.

ولد عبدالرحمن على موعد مع الفقر والشقاء، جاء به الأب المتعلم مدرس اللغة العربية والدين، كأنه بسطاوى يسعى لتسليم رسالته لصاحبة الدار، فأودع فاطنة فى بيت أبيها المسافر وراء تجارته، وهجر البيت إلا قليلا، فتولت الأم والجدة شؤون الطفل الذى ولد عليلا كأنه يقف أيضا على العتبة الفاصلة بين الحياة والموت، ولسان حاله يقول:

«والله لأنام على الشوك عريان/ لادَرِّى وأعَلِّى المَدَارى/ لما يتعدلى طيابى/ ده لو اتعدلى طيابى».

قال الراوى: كانت الأيام ردية، والأرض برية، والناس شقية، وكان وباء الملاريا يقيم فى البلاد، والكوليرا تسرق الروح من العباد، وفوق الصُفِّير والهزال أصيب الولد بالإسهال، وحاصره الموت، ولما أرسلت أمه تستنجد بزوجها، رد عليها بالنصيحة المريحة: اتركيه لمصيره المحتوم، فهو للموت مقسوم، لكن اليمامة لم تفكر يوما فى الموت، كانت مشغولة دوما بالحياة، حتى إنها كانت تمضغ طعام الفقراء الخشن بفمها حتى يلين، ثم تغذى به فرخها المسكين.

ومن بين السنين يقول الولد: من بين التصاوير القديمة الساكنة جوايا، صورتى كأنى شايف نفسى فى مرايا، فودة فرن مهلهلة عدمانة، وأمى تشيلنى بإيد واحدة تنقلنى من ضلة لشمساية ومن شمس لضل، وتبعد عنى الفروج المتجبر، وهو بيحاور ويداور علشان ينقر عينى، كنت أربع سنوات وبشوف الفروجة غول مكشر، كانت فاطنة تجرى وبطرحتها السودا تغطينى، ومن تحت الطرحة كنت بشوف الدنيا بلون تانى.. لون عينى، وفضلت أشوفها طول عمرى بنفس اللون، يمكن أسود، لكن فيه خروم نور بتورينى، والأحسن من كل الألوان فى الدنيا، كنت بحس رغم اللمحة السودا فى أى زمان إن طرحة أمى حواليا بتحمينى.

عندما عاد عبدالرحمن بذاكرته إلى سنوات الطفولة، وأراد أن يكتب عنها، اختار عنوان «أيامى الحلوة»، ودافع كثيرا عن هذا الاختيار فى مواجهة ملاحظات المترفين الذين نظروا إلى فقره وشقائه، ومرضه، باعتبارها حالة من البؤس لا ينطبق عليها توصيف «الأيام الحلوة»، لكن عبدالرحمن يعرف أن هذا الشقاء الثرى كان زاده الذى لا ينضب فى رحلة الإبداع، وفى النضج الإنسانى أيضا، وبرغم قسوة فترة مرضه، وطرق العلاج القاسية التى تعرض لها من طقوس الرقية ورد الحسد بالدعاء والتعاويذ البسيطة إلى الكى بالنار الذى اعتبرها المذاق الأول لطعم الموت.

يقول عبدالرحمن: كنت مريضا أسطوريا وكان علاجى مرتبطا بميراث أجدادى من وصفات وأغنيات وأعشاب وأحجار، وأجزاء غريبة من أجسام الحشرات وبقايا حوافر الماعز وخلافه، كما لو أن المرض كان مجرد ذريعة لكى أتشرب هذا الموروث، وأحصل على نصيبى من ثروة الجدود، كانت أبنود هى دائى ودوائى، مصدر علتى وسر شفائى، فى أرضها يسرح الفقر والمرض، وفى نفس الأرض ينبت الخير والداء، فهذا نغليه ونشرب ماءه، وهذا نجففه، وهذا نخلطه، وهذا نعجنه، وهذا نصحنه، وكان الأطباء هم نفس الهل المرضى الفقراء الذين اخترعوا حكمتهم فى مواجهة طب أبوقراط فقالوا بكل كبرياء وثقة: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب، وهم بكل تأكيد وبلا أى نزاع، مجربون، وحكماء تركوا لنا كنوزا أهدرنا منها الكثير.

طقوس كثيرة يتذكرها الولد، مرة بمرح وهو يتحدث عن طقوس العلاج من الحسد، ومرة بألم وهو يتحدث عن بشاعة الكى بمسمار الحديد الذى تم تسخينه على النار إلى درجة الإحمرار، ومرة بين هذا وذاك، وهو يتذكر طقس «الطهور»، حيث وضع مع شقيقه كل واحد فى «ماجور» (وعاء كبير من الفخار الغليظ مخصص للعجين)، وظل يتابع بغرابة وانبهار جو المرح والأغانى والذبح والطبخ على نار الكانون الموقدة، والصورة الوحيدة المنطبعة فى خياله عن الجد قنديل، الذى حمله بعد أن ألبسوه جلبابه الأبيض الجديد على اللحم، وأمسك به جده يداعبه ويقذفه عاليا نحو سقف السوباط ثم يتلقفه وهو يضحك، لكن هذه الذكريات المبهجة امتزجت بصورة مراد الحلاق وهو يستخرج الموس الحديد ويضربه على الحجر من الجانبين ليصدر الاحتكاك صوتا ظل يؤلمه طوال العمر كلما انفتح صندوق الذاكرة المرة.

وغدا نكمل السيرة