على من نطلق الغضب؟

صلاح عيسي السبت 04-07-2015 00:05

تمنيت من قبل، وأكرر التمنى، بأن نستطيع جميعاً، فى اللحظات الصعبة التى تتعلق بالشؤون الوطنية، أن نسوس انفعالاتنا، وهو ما يعنى أن نتأمل بعقل بارد هذه الانفعالات، ونفرزها لكى نميز فيما بينها، حتى نستطيع أن نسيطر عليها، وأن نوجهها إلى الهدف الحقيقى الذى يجب أن تتوجه إليه، بدلاً من أن نستسلم لها، ونتركها تقودنا وتسوسنا، فنتيح بذلك لعدونا فرصة استغلالها للإضرار بنا.

شىء من ذلك حدث خلال الأسبوع الماضى، فى أعقاب الضربة الإرهابية التى أسفرت - صباح الاثنين - عن استشهاد النائب العام المستشار هشام بركات، وأسفرت - صباح الأربعاء - عن استشهاد 17 من ضباط وجنود القوات المسلحة، فى المعركة التى انتهت بفشل محاولة الإرهابيين احتلال مدينة الشيخ زويد بسيناء، إذ سادت الشارع المصرى فى أعقابها حالة من السيولة الانفعالية، تجمع بين الغضب الشديد والحزن العنيف، عجز الكثيرون منا خلالها عن السيطرة على انفعالاتهم، أو التحكم فيها، وبدلاً من أن يتوجهوا بغضبهم نحو المجرمين الذين فعلوا ذلك، توجهوا به نحو الذين يقاومونهم، دون أن يدركوا أنهم بذلك يهدرون دماء الشهداء الذين دفعهم الحزن الشديد على استشهادهم لذلك الغضب، فقد استشهد النائب العام لأنه كان يقف فى صف الذين يقاومون الإرهاب، ولأنه حرص على أن يحقق فى كل الوقائع التى نسبت إلى الإرهابيين، واستشهد الضباط والجنود الذين حطموا أوهام تنظيم داعش الإرهابى فى احتلال مدينة الشيخ زويد لكى تكون عاصمة لولاية سيناء، واستشهد آلاف غيرهم من ضباط وجنود الجيش والشرطة، وغيرهم فى الحرب ضد الإرهاب، التى دارت معاركها على امتداد العقود الستة الماضية، وليس من المنطقى أن يقودنا الحزن على استشهاد الذين ضحوا بأعمارهم، وهم يقاومون الإرهاب، إلى وضع فأس المسؤولية عن رحيلهم فى عنق زملائهم الذين نجوا من المعركة، والذين لايزالون يواصلون المقاومة، بدلاً من أن نعلق هذه الفاس فى رقبة الإرهابيين الذين اغتالوهم، ونتوجه بهذا الغضب ضد القتلة الحقيقيين!

استند الذين قادتهم انفعالات الغضب والحزن، إلى لوم الذين يقاومون الإرهاب بدلاً من لوم الإرهابيين، إلى القول بأن هناك تقصيراً فى حماية الشخصيات العامة، أدى إلى نجاح الإرهابيين فى اغتيال النائب العام، وإلى أن هناك تراخياً فى تأمين نقط الحراسة فى سيناء مكن الإرهابيين من التسلل إليها والهجوم عليها.

ذلك أمر وارد، بل هو طبيعى، ففى الحرب - سواء كانت حرباً بين جيوش نظامية، أو بين جيش نظامى وجماعات غير نظامية - يسعى كل طرف إلى تغيير تكتيكاته وتطوير أسلحته، وكلما نجح كل طرف فى سد ثغرة فى دفاعاته، أو تقوية هذه الدفاعات، بحث الطرف الآخر عن ثغرة جديدة، وعن سلاح جديد يستطيع أن يخترق به هذه الدفاعات، ومن البديهى أن الجهات المنوط بها إدارة الحرب ضد الإرهاب، تقوم فى أعقاب كل حدث إرهابى، بتقييم النتائج، لكى تكتشف الثغرات الجديدة التى ينفذ منها الإرهاب، وتعزيز الدفاعات فى النقاط التى تحتاج إلى ذلك.

لكن ذلك كله شىء، وتوجيه الغضب نحو الذين يقاومون الإرهاب فى ظل هذه الحالة من نقص الوعى وتداخل الانفعالات والعجز عن السيطرة عليها والتحكم فيها، شىء آخر تماماً، إذ هو يصب - سواء قصد أصحابه ذلك أو لم يقصدوا - فى مصلحة العدو، ويحقق له هدفاً من أهم أهدافه، وهو إضعاف الروح المعنوية لدى الذين يقاومون، ويستهين بما يقومون به ويضحون فى سبيله، ويستحقون من أجله كل إشادة وتكريم وإنصاف.. والأخطر من ذلك كله، أنه يبرئ القتلة الحقيقيين ويضع فأس المسؤولية عن دماء الشهداء فى رقبة الذين يتصدون للإرهاب ويقاومونه.

ولو أن الذين أزعجهم وأربك انفعالاتهم ما جرى فى الأسبوع الماضى، ملكوا صفاء الذهن الذى يمكنهم من تأمل ما جرى بعقل بارد، لا يشوشه الغضب الجامح أو الحزن الممض، لما تركوا أنفسهم لهذا الانفلات الانفعالى، ولأدركوا أن ما جرى فيه، لم يكن آخر معارك الحرب ضد الإرهاب، ولن يكون آخرها، وأن الذين استشهدوا خلاله، لم يكونوا أول الشهداء فى معارك هذه الحرب ولن يكونوا آخرهم، ولتذكروا أن النائب العام - على علو مكانته وقيمته - لم يكن أول الذين استشهدوا لأنهم قاموا بواجبهم الوطنى والمهنى، فى حماية أمن الوطن واستقراره، وأن تاريخ مصر المعاصر يحتفظ فى سجله بأحرف من نور، بأسماء عشرات من روساء الجمهورية ورؤساء الوزارات، والوزراء، والقضاة، ورجال القانون، والأدباء والمفكرين والصحفيين ورجال الدين، فضلاً عن مئات من ضباط الجيش والشرطة، وآلاف من المواطنين، اغتالهم أو حاول اغتيالهم هؤلاء الإرهابيون الأوغاد، الذين يتوضأون بالدم، ويتوهمون أن التعبد لله عز وجل، لا يكون بعمارة الكون، ولكن بقتل وتخريب كل ما خلق من بشر وطيبات.

ولو أن بعض الذين يوجهون سياسات الإعلام المصرى، كانوا يتذكرون أصول مهنتهم وتقاليدها، لما تركوا أنفسهم فريسة لهذه الحالة من الانفلات الانفعالى، الذى نقلهم من خانة المهنيين إلى خانة عوام الناس، فانمحى فى خطابهم الإعلامى الخيط الرفيع بين الجانى والضحية، وبين الإرهابى والذى يقاوم الإرهاب، ولأدركوا أن مهمتهم ليست فقط نقل نبض الشارع، ولكن - كذلك - ترشيد وعيه، ومساعدته على التحكم فى انفعالاته، وحمايته من حرب الدعاية المضادة التى تستهدف تسطيح وعيه.

فهل آن الأوان لكى نتنبه جميعاً، إلى أن الذين يستحقون أن نطلق عليهم غضبنا كله، هم هؤلاء الإرهابيون، الذين يصرون على قتلنا وتخريب بلادنا، وإجاعتنا، وتحويلنا إلى سبايا، ويتقربون إلى الله بقطع رؤوسنا؟!