«فى البدء كانت حرية الصحافة».. وصفها فولتير فيلسوف فرنسا الأشهر بأنها «آلة يستحيل كسرها» وقبله فى القرن الثانى عشر عقب نجاح الثورة الفرنسية ـ التى تعد البداية المتفق عليها لتقويم الحريات ــ وإعلانها مبادئها الثلاثة الشهيرة «الإخاء والمساواة والحرية»،
وضع الثوار حرية الصحافة جنباً إلى جنب مع مبادئها الرئيسية وقف «ميرابو» أمام ممثلى الشعب الفرنسى ليقول: «فليعلن الآن أول قانون من قوانينكم: حرية الصحافة إلى الأبد،
وهى حرية لا يجب أن تمس، ولا يصح وضع حدود لها، لأنها الحرية التى لا يمكن التمتع بالحريات الأخرى بدونها». سنوات طويلة احتاجها العالم لترسيخ هذه الحرية.. ونضال مكثف خاضه الصحفيون لتأكيد حريتهم والربط بينها وبين حرية المجتمع وحقه فى المعرفة،
ولم تكن مصر بعيدة عن هذا النضال ولم يكن صحفيوها بعيدون عن مواجهة بطش السلطة وضيق صدرها بحرية الأقلام فكانت الزنازين نصيب أحمد حلمى والعقاد وتوفيق دياب وإحسان عبدالقدوس وطابور طويل من الصحفيين قدموا حريتهم ثمناً لحرية الصحافة وحرية المجتمع..
واجهوا أنظمة متعاقبة وأيديولوجيات حكم متتالية اختلفت فى كل شىء واتفقت على العداء لحرية الصحافة.
كان السيد عيسى «مدرس اللغة العربية» يعرف هذا التاريخ وكان يردد منه أمام أبنائه «منى وإبراهيم وتغاريد وعبير وشادى» بينما يراجع لهم دروسهم فى منزله بقويسنا، ويعنفهم أشد تعنيف حين يخطئ أحدهم فى بناء جملة ويكسر إحدى قواعد اللغة العربية،
لكنه لم يكن يعرف أن أحد أبنائه سينضم لطابور حمل على عاتقه أمانه «حرية الصحافة».. لم يكن يعرف أن إبراهيم سيصبح أحد العلامات الفارقة فى تاريخ الصحافة المصرية وسينطلق من قويسنا مروراً برحلة طويلة من المعارك والملاحقات القضائية وحالة متتالية من المد والجذر بينه وبين السجون،
إلى أن يستقرعند جائزة جبران توينى التى منحه إياها الاتحاد العالمى للصحف «شهادة بالتزامه بحرية الصحافة وشجاعته وقيادته وطموحه وتمتعه بالمعايير الإدارية والاحترافية العالية».
قد تختلف مع إبراهيم عيسى وتدخل معه فى سجال مهنى تسجل فيه ملاحظات ويسجل عليك، لكنك لا يمكن أن تتمكن من إغفال دوره فى رفع سقف حرية الصحف وتوسيع دائرة النقد والمساءلة فى الصحف المصرية.
عندما جاء عيسى من قويسنا قاصداً كلية الإعلام التى تخرج فيها عام 87 كان قد حدد طريقه وكشف عن غرامه بالصحافة فانضم إلى مؤسسة «روزاليوسف» العريقة وقت أن كانت تلتقط المواهب وتصنع نجوم المهنة،
وقبل أن يتجاوز الثلاثين من عمره كان يصنع حدثاً فارقاً فى تاريخ الصحافة ويترأس تحرير جريدة الدستور فى إصدارها الأول عام 1995 الذى أسس لتجربة الصحافة المستقلة، بشكل جديد ولغة جديدة وخطاب جديد وسقف سياسى أعلى حمله عيسى ومن جاءوا بعده حتى ارتفع إلى أعلى عليين.
كان منتصف تسعينيات القرن الماضى عند صدور الدستور الأولى علامة فارقة بالفعل فى تاريخ الصحافة المصرية أطلقت الصحف المستقلة التى وصلت إلى قمة توهجها فى السنوات الثلاث الأخيرة،
وتوالت عبرها أجيال صحفية شابة ومتحررة من التأثير الحكومى، وغير مكترثة بعصا النظام ولا بجزرته، وعملت بجد على تحرير مناطق جديدة كانت خاضعة للتعتيم والصمت وإعادة صياغة الدور الحقيقى للإعلام فى ظل انفتاح وحراك سيطر على السياسة والإعلام معاً.
قد تنتقد فيه تحولاته الفكريه ــ وهذا حقه ــ وقد تختلف مع أسلوبه فى إدارة العمل ومع صوته العالى ومع خلطه بين مهمة الصحفى ومهمة السياسى فى مجتمع ذابت فيه الفوارق بين الاثنين ودخلت فيه الصحافة لتعوض غياب الأحزاب، لكنك لا يجب أن تنكر أن كل ممارساته أضافت لحرية الصحافة وسقفها.
فى فرنسا يقولون ما قاله «شاتوبريان»: «ليس الدستور هو الذى أعطانا الحرية، إنما هى حرية الرأى التى أعطتنا الدستور».. وفى مصر لابد أن ندرك أن حرية الصحافة ليست منحة من أحد وإنما هى نتيجة نضال أجيال متعاقبة ورجال حقيقيين مازلت أنا وأنتم والمجتمع كله يجنى ثمار جهدهم.