بعد مديحى فى جمالك يا نبى/ أكَمِّل سيرة الأشواق/ قسمة صبية وصبى/ ما بين لقاء وفراق.
واسمعونى يا عشاق:
عادت فاطنة لدارها حرة، بعد أن تخلصت من «عفريتها» بالطلاق، ضحكت وغنت وعاشت فى مسرة، لكن شيئا قد تغير فى السياق، فالطفلة التى خرجت من دارها يوم الزفاف، لم تعد مرة أخرى إلى الدار، فى بادئ الوقت لم يظهر الاختلاف، لكنه سرعان ما بان وتحول إلى حصار: نظرة قنديل.. كلام «ست أبوها».. دعوات الجيران، ربنا يسترك يا فاطنة ويرزقك بابن الحلال، ويعوضك عن اللى كان، ويرزقك بالعيال.
كانت الطفلة الوحيدة المدللة ترفض فكرة الزواج فى قرارة نفسها، فقد عانت من صدمة تشبه الاغتصاب، كانت تتخيل أن كل البيوت مثل بيتها، مفتوحة على سماء المودة بلا أبواب، وكل العلاقات تشبه علاقة أبيها بأمها، كانت تنتظر الحب دون أن تعرف اسمه أو ترى صورته الحلوة، لكنهم قطفوها كثمرة رمان قبل الأوان، خدشوا براءتها فى ليلة الجلوة، ثم التهم لحمها بقسوة وحش سعران، بلا رحمة.. بلا كلمة حب ولا تدليل ولا ترغيب ولا حنان.
قال الراوى: يا سادة يا أحباب قرأت لكم فى كتاب، حكاية شبيهة عن بنت جميلة ونبيهة، كان اسمها نورا، تزوجت وهى صغيرة من شخص ثرى اسمه «تورفالد هيلمر»، وعقب زواجها اكتشفت أنها تحولت من لعبة فى يد أبيها، إلى لعبة فى يد زوجها، لكنها لم تتذمر، وبعد سنوات اكتشفت نورا أنها غير سعيدة، روحها خائفة، وحياتها زائفة، ومشاعرها بليدة، فخرجت من «بيت الدمية» وصفقت الباب وراءها، لتبحث عن ذاتها وحياتها، ويقول النقاد إن صوت صفقة نورا للباب وهى تخرج من هذه الحياة بجرأة، أيقظ أوروبا كلها على نداء تحرير المرأة، وأوقد مشعل الأمل، لموكب الباحثين عن المساواة والحرية وحق العمل.
استغرقت نورا 8 سنوات أنجبت خلالها ثلاثة أطفال، قبل أن تدرك قيمة الحرية، لكن فاطنة هزمت الخيال، الذى اكتفى النرويجى هنريك إبسن بكتابته فى مسرحية، إذ تمردت الصعيدية الحرة مع أول صدام، واحتجت على كسر إرادتها واغتصاب أنوثتها بلا احترام، ورفضت أن يتحول عقد زواجها إلى وثيقة شراء جارية من سوق النخاسة، نطت الحيط وتسلحت بالمرض وتحصنت بالموت وقاتلت بشراسة، حتى لا تعيش مصير الجوارى، وبهذه القفزة الجريئة فوق أسوار العبودية، سبقت فاطنة أفكار تولستوى فى «أنا كارنينا» وفلوبير فى «مدام بوفارى»، ومرجريت ميتشيل فى «ذهب مع الريح» حيث تقف سكارليت أوهارا كامرأة صامدة تقاوم الحرب والخراب وتزرع مزرعتها بفأسها، وتتفوق فاطنة عليهن جميعا لأنها لم تهرب من أجل رجل أو شهوة أو أطماع مالية، لكنها هربت من أجل ذاتها وحريتها.. من أجل مبدأ وقضية.
فإذا كانت نورا قد اكتشفت بعد أكاذيب وصراعات طويلة، أنها يجب أن تكون كما تريد وليس كما يريدها الآخرون، فإن فاطنة «قنديلة»، اكتشفت ذلك بلا أكاذيب ولا يحزنون، لقد قالت نورا بعد 8 سنوات: ذاتى ملكى وعلىّ أن أحافظ عليها من طغيان الغير، بينما قالت فاطنة عندما أراد أبوها أن يعيدها: لو أرغمتنى سأرمى بنفسى فى «البير»، فى نهاية تجربتها قالت نورا: حتى لو كنا نحب، الحب وحده ليس كفاية، لابد أن يكون الحب حراً، وفى أولى تجربتها وصلت فاطنة مباشرة إلى النهاية وأزمعت أمراً، كتبه ابنها بعد ذلك فى أغنية، مستوحاة من سيرة بنى هلال، إذ وقعت عزيزة ابنة معبد السلطان حاكم تونس فى حب يونس بن شيحة، ابن أخت أبوزيد الهلالى، ودبرت حيلة لأسره، وفاتحته بحبها وعرضت عليه الزواج، لكى تحرره من الأسر، لكنه رفض المساومة لأن الحب لا يولد فى الأسر والقهر.
وفى هذا الموقف أنشد عبدالرحمن بن فاطنة يقول:
«جاى من بلاد البعيدة/ لا زاد ولا ميه/ وغربتى صاحبتى بتحوم حواليا/ وانتى تقوليلى بحبك؟!/ تحبى إيه فيا؟/ ده حب إيه ده/ اللى من غير أى حرية؟»
ولما كان قنديل بين الحين والحين، يسافر إلى السويس لرؤية زوجته الثانية ومتابعة أحوال التجارة، كانت الحياة فى البيت تقف على قدمين، فاطنة وأمها.. فيديرونها بمهارة، يزرعن الخضروات فى أرض الكرم، ويذهبن لبيع أفراخ الحمام فى السوق، امرأتان بلا رجال معا فى الفرح معا فى الهم، والدنيا ماشية يوم تحت ويوم فوق، الـ«فوق» معروف بالضحكة الصافية واللقمة الهنية، والـ«تحت» لما تِلَمَّح حداية من جارات السو وتدعى لفاطنة بالعريس، واليوم اللى هتروح فيه «بيت العَدَل»، وتسأل ليه قنديل مِطَوِّل فى السويس،.. ويمكن بنتك يا أختى معمول لها عَمَل.
أثناء هذه العواصف الترابية، تدير فاطنة ظهرها للجارة الكيادة، وتصعد إلى الغرفة الفوقانية، بينما تطلق «ست أبوها» النيران مثل كور الحدادة، وينتهى الموقف بتعكير المزاج، والاضطرار إلى التفكير فى الزواج، خاصة بعد أن يعلو صوت الجارة الحشرية وهى تغنى هذه الأغنية:
«درج الحمام ع الكوم/ ولا فيش جواز اليوم/ كلوا بعضكم يا بنات
درج الحمام ع الجنا/ ولا فيش جواز السنة/ كلوا بعضكم يا بنات»
ذات يوم جاءت سكينة أم حسنين، ومعها امرأة غريبة من آخر البلد، وقالت لـ«ست أبوها»: عايزينك فى كلمتين، هما كلمتين بالعدد، وقالت الست القادمة من جنوب أبنود، إحنا عايزين بنتكم للشيخ محمود.
وغدا نعود.