لا أعرف من الذي اخترع الريموت كنترول، لكن الأهم هو أنه أعطانا واحدة من أهم أدوات الحرية الإنسانية: حرية الاختيار. فبأسهل الطرق التي لا تزيد على ضغطة «زر» رقيقة- من المؤكد أنها تستهلك أقل من سعر حرارى من طاقتك- فإنك لا تستطيع أن تفتح «التليفزيون» فقط، بل أن تغلقه أيضا، وبين هذا وذاك يمكنك التنقل بين عدد كبير- تختاره أيضا- من القنوات. المسألة كلها في يد البشر، يحددون ويختارون وينتظرون ويتعجلون، حسبما يشاءون، البدائل متنوعة، بل إنه يمكن القول، دون مبالغة كبيرة، إنها الحالة المثالية للمنافسة الكاملة، لأنه حتى لو ضاقت بك الدنيا في القنوات العربية، فإن هناك الكثير من القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية أو بلغات أخرى إذا عرفتها اتسع نطاق الحرية التليفزيونية حتى يصل إلى عنان السماء. لماذا إذن هذا اللغط الواسع حول المسلسلات التليفزيونية وسخافتها وانحلالها وتخلفها؟ صحيح أن المشاركين في هذه المسلسلات ينشرون إعلانات عن أهميتها المصيرية، وتكاد يتفق جميع الممثلات المشاركات أنهن سعداء للغاية برد فعل الجماهير على المسلسل الخاص بالممثلة الفاضلة. ولكن ذلك لم يكن له تأثير في طوائف كثيرة من «المثقفين» الذين في العادة لا يعجبهم العجب، ولا الصيام في رجب، وفى هذه المرة مارسوا دورهم الدائم في «العكننة» على المواطنين الذين يحبون المسلسلات ويعتبرونها ركناً من أركان صيام شهر رمضان المعظم.
أنا شخصيا لم أشاهد أيا من المسلسلات، ولا أظن أننى سوف أفعل، وإذا لم أكن أشاهدها طوال السنوات الماضية، فلماذا أفعل ذلك هذا العام؟ ببساطة مارست حقا من حقوق حرياتى الشخصية في الحصول على اختيارات أخرى تليفزيونية وغير تليفزيونية. ولكننى لم أفهم إطلاقا تلك الصرخة التي جاءت من اليسار الثقافى في بلدنا احتجاجا على ما رأوه تعريضا بهم في مسلسل «أستاذ ورئيس قسم» للأستاذ الكبير عادل إمام. في حدود علمى فإن كل السادة المثقفين على اليسار لديهم «ريموت كنترول» وإذا كان ما جاء في المسلسل يمس أعصابهم الحساسة فلماذا لا يمارسون الاختيار وينتقلون إلى مسلسل آخر أو إلى قناة أخرى. المعضلة هنا أن «اليسار» كان له تأثير كبير في الساحة الفكرية للبلاد لعقود عدة، وفيها لم يتركوا أحدا على اليمين، الذي صار الرأسمالية «المتوحشة»، أو في الوسط الذي مثل «التردد» و«الميوعة» والعمالة للسلطة السائدة في «البرجوازية الصغيرة». كم من مسلسلات وأفلام انتهت كلها وبطل الفيلم يحمل ساطورا أو سكينا لقتل الطاغية الذي سرق الشعب والأمة، وفى بعضها كان الأستاذ عادل إمام شخصيا مبدعا أيضا؟ سخر اليسار من الجميع، وحط من قدر من شاء، ووزع التهم في كل الاتجاهات، ساخرا أحيانا، وجادا أحيانا أخرى، فما هي المشكلة هذه المرة أن يكون اليسار و«ثرثرته الشائعة» موضوعا للكوميديا؟
وللحق فإن الهجوم على المسلسلات لم يأت من اليسار وحده، فقد جاء أيضا من اليمين الذي وجد فيها تدميرا «للحضارة المصرية». هكذا في ضربة واحدة، صارت الحضارة المصرية مهددة بالانهيار لأنه من الهشاشة والخفة التي تجعل مسلسلا تليفزيونيا سخيفا يقوض أركانها. في البداية هل توجد حضارة أصلا، إذا لم يكن لديها الإرادة والقدرة على استخدام جهاز «الريموت كنترول»، فالحقيقة أن الحضارة لا توجد إذا فقدت هذه القدرة، وفى كثير من الأحيان فإن الاختيار يكون دالاً على ما وصلت الحضارة إليه. لا أدرى لماذا ترى جماعة منا المسألة معكوسة بشأن المسلسلات، فهى السبب في انحطاط الثقافة الشعبية، بل إنها يمكن أن تزيدها انحطاطا، ولكن هل من الممكن عرض المسألة بطريقة أخرى بأن العرض يستجيب لما يريده الطلب. في الولايات المتحدة يقسمون اليوم إلى ثلاثة أقسام: من الصباح وحتى السادسة مساء سوف يكون حال التليفزيون كحالنا في شهر رمضان، لأن المشاهد عادة أقل تعليما وطموحا، حيث توجد سيدات البيوت، والعاطلون عن العمل، والنازقون من الشباب. ومن السادسة إلى العاشرة يكون الطلب مختلفا لعودة الناس من العمل، وتطلعهم للتعرف على أمور جادة حتى ولو كانت كوميدية. بعد العاشرة يسود طلب كبار السن، وهؤلاء أكثر حكمة، ولديهم حنين إلى الماضى فتكون البرامج الحوارية، والأفلام. وبصراحة، لماذا نريد مسلسلات أفضل حالاً من كل شىء آخر في المجتمع؟!