في مسرحية «شاهد ما شافش حاجة» يروي سرحان عبدالبصير لجارته الراقصة عن ذهابه إلى السينما ومشاهدته لفيلم بعنوان «أنا يتيم»، وكيف كان يبكي بحرقة، ليس على اليتيم بل لأن لأن الجزمة ضيقة على رجله!
هذا هو المشهد الأكثر شهرة في حياة عادل إمام الفنية والأكثر دلالة على ملامح فنان امتلأ بنفسه حد الانفجار. المسرحية التي بدأ عرضها عام 1976 بنزاع حول حقوق مؤلفيها، هي العمل المحوري في حياته الفنية؛ فهي تؤرخ لبداية تسمية الأعمال بعناوين تشير إلى الشخصية الرئيسية التي يمثلها عادل إمام. ومن بعدها توالت الأسماء التي تشير إليه وحده وتجعل من الآخرين أصفارًا على يمينه؛ بحيث يقتصر عمل الطاقم الفني كله على مضاعفة حجم الممثل الأوحد؛ الذي بلغ الذروة في عنوان مسرحية «الزعيم».
الأهم من كل هذا أن «شاهد ما شافش حاجة» هي المسرحية التي كف فيها عن أن يكون طفلاً، وهذا معناه في التمثيل أن يكف الممثل عن التعامل ببراءة وحياد مع الشخصية التي يمثلها.
باختصار كف عادل إمام في ذلك التاريخ عن أن يكون ممثلاً، واتخذ لنفسه مهنة أخرى تخصه وحده هي «عادل إمام». لم يعد المشاهد يرى الشخصية بل يرى عادل إمام دائمًا. ومن يتأمل البناء النفسي والاجتماعي والعقلي لشخصية عبدالبصير سيندهش من حجم التلفيق الذي تعاني منه الشخصية من منتهى السذاجة التي تجعله لا يفهم إيحاءات الراقصة إلى منتهى الدهاء إلى درجة السخرية من هيئة المحكمة. وهذا التلفيق غير مقبول في مهنة التمثيل لكنه مقبول في مهنة «عادل إمام» الذي يجب أن يكون خفيف الظل دائمًا.
ومنذ هذه المسرحية كذلك ستنشأ متلازمة «الجميلة والزعيم» التي تتطلب وجود ممثلة مثيرة، ستلعبها يسرا في عدد كبير من الأفلام. وإلى جانب الجميلة والزعيم تبدو مفردة الجزمة، التي لا نعرف سرها ملازمتها لأعمال عادل إمام، لأننا لم نعرف شيئًا عن السيرة الذاتية لفنان يملأ الدنيا شهرة. ربما لو كتب سيرته بصراحة كما يفعل فنانو العالم لاكتشفنا سر متلازمة الحذاء، التي لا يمكن أن يكون وجودها مصادفة.
يحتاج البحث عن الحذاء في أعمال فنان غزير بدأ حياته الفنية منذ مطلع ستينيات القرن الماضي إلى تفرغ بحثي، لكن بسهولة متابع غير مولع بعادل إمام، يمكن أن نتذكر في فيلم «بوبوس ـ 2009» محاكاة واقعة قذف الصحفي العراقي منتصر الزيدي لبوش بالحذاء. وفي مسلسل «صاحب السعادة ـ 2014» تشكل سرقة جزمة وزير الداخلية في مسجد حدثًا كبيرًا، وها هو يرفع مستويات القراءة في المواقع بخبر قذفه أحمد بدير بالحذاء في مسلسل «أستاذ ورئيس قسم» المعروض الآن، كما أثارت صورته بالحذاء متصدرًا الكادر على صفحة معجبيه بالفيسبوك جدًلا في صفحات التواصل.
لكن الأهم من كل الجزم هو جزمة اليسار، التي يبدو أنها تؤلم الزعيم إلى حد غير معقول!
وإذا عدنا إلى المسرحية المفتاح «شاهد ماشافش حاجة» ربما نرى في السخرية من اليتم وربما من الفن ما يعكس نوعًا من المشاعر الاجتماعية والثقافية والموقف من الحياة الذي أخذ يتبلور مع تصاعد ثروته، حتى وصل إلى الحد الذي نراه اليوم من ازدراء لليسار وللنضال والعلم، إلى حد يأخذ شكل الانتقام!
قبل المسلسل المعروض الآن «أستاذ ورئيس قسم» لابد أن يتذكر المشاهد غير المولع بعادل إمام مشهد دخوله بيت جيرانه الشيوعيين في فيلم «السفارة في العمارةـ 2005»، في ذلك المشهد يتجلى الكشف الكامل لخلاصة الموقف.
الأسرة تحمل لقب شهدي، ويتكرر الاسم مع الإشارة إلى أفراد الأسرة واحدًا فواحدًا لحظة التعارف بالأستاذ شريف، مهندس البترول، وكان من الممكن لرب الأسرة أن يعرفهم بالاسم الأول، دون الحاجة إلى تكرار لقب العائلة، لكن هذا التكرار كان ضروريًا لتثبيت إهانة اسم المناضل شهدي عطية، الذي لقي حتفه في معتقل ناصر تحت التعذيب.
تبدو الأسرة الشيوعية بصورتها الشهيرة في اللوحة الكاريكاتورية المبتذلة؛ فأفرادها يشربون الخمر دائمًا معًا، ويمارسون الجنس بحرية، وسخون، تفوح منهم روائح كريهة، لكن وسط هذه الأسرة لابد من وجود الوردة الجميلة والأنيقة داليا البحيري من أجل كليشيه «الجميلة والزعيم» التي تتطلبها المهنة التي اسمها عادل إمام، وليس مهمًا أن يكون جمال وأناقة داليا منسجمًا مع الحالة الجمالية المتدنية لبقية أسرتها!
وفي المشهد نفسه تبرز «متلازمة الجزمة» فيصرخ عادل إمام في الشاب لأن رائحة جزمته منتنة، وردًا على الكليشيه الشيوعي «خُلقت لأعترض» يهتف عادل إمام و«وأنا كمان خُلقت لأعترض على ريحة رجله المنتنة»!
الشيوعي المنتن المنحل يعترض لمجرد الاعتراض ويصرخ كالمعتوه «خُلقت لأعترض» ويفخر بأن حياته كلها في السجن، وإذا بالبوليس يطرق الباب ويلقي القبض على داليا، فتتركها الأسرة تذهب بلا ألم أو خوف، وكأنها ذاهبة إلى السينما مع صديقاتها، ويبادر الأب عادل إمام «كنا بنقول إيه؟» وينظر إلى كأسه ويسأله: «عايز تلج يا أستاذ شريف؟».
هذه الوحشية لا يمكن أن تكون موجودة عند أوسخ البشر، موجودة فقط في الكاريكاتير الذي يقدمه عادل إمام، وتبقى النقطة المركزية هي إلصاق تهمة الضحالة وغياب الرؤية بالمناضلين، وهذا ما يظهر مجددًا في متلازمة الجزمة في «أستاذ ورئيس قسم»!
ولا تخفى على أحد السخرية من العلماء ابتداء من هذا العنوان، حيث نقول ساخرين ممن يدعي المعرفة «طبعا ما انت أستاذ ورئيس قسم»!
في المسلسل ينزعج الأمن من حركة «إيه» ويتهم الدكتور فوزي جمعة «عادل إمام» بأنه المؤسس لهذه الحركة المزعجة على غرار الحركات السخيفة الأخرى «كفاية» و«9 مارس»، ويفسر عادل إمام الأمر: «أنا يا باشا كنت في مظاهرة، وجه طفل شوارع عايز يخلع جزمتي، فقلت له إيه؟ فلقيت الجميع بيهتفوا ورايا: إيه، إيه! وهذا هو القطيع الذي يقوده أستاذ بلا رؤية واضحة، لكن القطيع خُلق ليعترض.
في الواقع لا يوجد مناضل جامعي بهذه المواصفات؛ من الجميلة والنظيفة لطيفة الزيات إلى الأنيقة الجميلة رضوى عاشور، إلى ثقال الرجال من أمثال عبدالجليل مصطفى ومحمد أبوالغار وزملائهما في «9 مارس»، الأساتذة المعترضون لديهم رؤى عميقة وشاملة لمشكلات البلاد، وهم من أهم أسباب بقاء هذا البلد بما قدموه من تلامذة يتناقشون معهم الند للند ولا يسيطرون عليهم بأساليب الشعوذة التي يمارسها الأستاذ جمعة على مريديه!
والمناضل الجامعي وغير الجامعي الحقيقي يموت تحت التعذيب قبل أن يقول للضابط يا باشا، كما يفعل فوزي جمعة بين كلمة وأخرى، ولا يذهب للعزاء في زوج خالة رئيس الوزراء. لكن غير الجائز في الواقع وفي الفن المقنع، جائز إذا كان الفنان مؤسسة ومهنة بحد ذاته. وفي مهنة عادل إمام فقط يقول المناضل يا باشا، ويتشابك مع دوائر السلطة إلى الحد الذي يبدو عليه المناضل جمعة.
كل تلفيق جائز؛ فكل ما يهم عادل إمام، وكل ما يهم النظام، الذي استنفد كل المسموح له من جراحات «شد الوش»، أن يشوه النضال المدني. وليس مهمًا أن يكفر الشباب بكل قيمة ويذهب إلى التطرف؛ فالشباب الذين ستطردهم كوميديا عادل إمام من طريق النضال المدني سيجدون عملهم في دراما عادل إمام ضد الإرهاب!