السيرة الأبنودية: قنديل يقتل الشيطان ويحوّل النمل إلى وحوش

كتب: جمال الجمل الأربعاء 24-06-2015 11:16

بعد الصلاة والسلام على النبى المحمود، ناخد م التاريخ فكرة، نحكى فى سيرة بنى أبنود، ونسترجع العبرة.

قال الراوى: كانت ست أبوها غرقانة فى بحر الشوق، وحالها يغم، لما رفع قنديل البلطة لفوق، ونزل على وِلدة من أولاد النخلة الأم، فطارت يم السور.

سألته ست أبوها: ليه كده؟

قال ضاحكا: خليها تغور، وهل لها فائدة، النخلة الطارحة لازم ترتاح، ونشيل منها أى جناح، وإلا هيبقى كل النخل ذكور.

قالت: بس دى وِلدة، ليه تقطعها، جايز تطرح؟

حط البلطة وبص لفاطنة وقال: طول مانا حى يا ست أبوها أقدر أحميكوا بدراعى، بس محدش يملك القدر، قطع الولدة يمنع عنكو الأفاعى، اللى تتخفى فى تلافيف السَجَر، وأضاف ضاحكا كأنه لم يدفن أخته منذ أيام فى التُرَب: خايف أموت والعمر يفوت من غير ما أشوف النخلات طارحات، وناكل منها الرُطبْ، قلت ما أسيبش جذوعها سمينة زى الواد فرحات، حتى لو صار جذع الواحدة كما عود القصب.

وعاد قنديل لتقطيع الولدة من حول النخل، وظل حتى الضحى بلا فطور، وبعد أن انتهى من تقليم الكل، جلس فى ظل السور، بين الكرم والدار، فرشت له ست أبوها حصيرا، وجاءت بالحمام المحشو بالفريك والبهار، لم يأكل كثيرا، كان يقطع النسيرة، وينفخ فيها، ثم يطعم فاطنة الصغيرة، التى استكانت كالبسة فى حجر أبيها، بينما ست أبوها تجلس بقربه ساهمة متعجبة، فجأة قال لها بنبرة محببة: لا تتعجبى يا ست أبوها التعب يقتل الغم، لقد أصبحت مثلك، لا أب ولا أم، لا أخ ولا أخت، أصبحت أهلى وأصبحت أهلك.

شرب قنديل الشاى والماء، من يد ست الستات، فاستبشرت بصحبة المساء، وتذكرت أنفاسه الساخنة قبل ثلاث سنوات، ولما استلقى مكانه فى قيلولة، سحبت ابنتها فاطنة ودخلا الدار، قبيل العصر انتفضت مذهولة، على صوته يصيح: يا ستار، هرولت إلى كرم النخيل، تتبعها فاطنة مفزوعة، لتجده واقفا فوق ثعبان طويل، رأسه بالبلطة مقطوعة، استندت ست أبوها إلى جدار السور، وتصلبت فاطنة مذعورة، قال بصوته الخشن الجهور: قلبى كان موغوش بالخطورة، هذا ليس من الثعابين، لا هو يام ولا أفعى ولا صل، لكنه شيطان لعين، اختبأ لى فى الظل، قاصدا مماتى، ولما اقتربت من الدغل، كاد أن يلوشنى ويخطف حياتى، هل فهمت الآن سر قطع الولدة؟، قالها وهو يمسك الثعبان بخرقة دمور، يربطها بشدة، ثم يقذف الشيطان خلف السور، بعزم ما فيه، ويذهب إلى مصب البئر، ليغسل يديه، ويتوضأ ويصلى العصر.

قال الراوى: انتظرت «ست أبوها» بلهفة وعد المساء، نومت فاطنة وخرجت بخفة تحضر العشاء، فوجئت بقنديل فى سابع نومة، تذكرت غزلية أصبحت أهلى وأصبحت أهلك، وقالت بغيظ: إنها البومة.. بركاتك يا سكسك!.

مكث قنديل ثلاث سنوات متصلة فى أبنود، مثل التى قضاها يتاجر، فهو يبقى طويلا حين يعود، ويغيب طويلا حين يسافر، حين يكون هناك ينسى هنا، وحين يكون هنا لا يكون لـ«هنا» بديل، كان يرى أن المشاوير الكثيرة تلتهم العمر وتمنع الهنا، كان مثل الشجرة يمشى قليلا ويقيم طويلا، فظل فى أبنود يزرع ويجنى، ويحمل مع الرجال أجولة الغلال، ويتاجر ويبنى، كأنه لن يرحل إلى الأبد، فهو مع كل الناس يتدخل فى كل صغيرة وكبيرة، يعرف أسماء المواليد الجدد، وأسماء الراحلين وأحوال الجيرة، ثم يفاجئ الناس ويغيب سنوات، فى سفر مديد، وقبل أن تذبل الذكريات، يفاجئهم أيضا بالعودة من جديد.

أما عن حكاية «ست أبوها» مع الشوق، فلم يستطع الراوى أن يقول، لأنه يعرف الذوق، ويفهم فى الأصول، لكن «ست أبوها» بعد أن ودعت أيام السهاد، حكت لحفيدها الشاعر، أن قنديل صار يتباعد عنها فى الرقاد، من غير أن يغلظ المشاعر، فكان يرش السطح الطينى أمام الغرفة بالماء، ويفترش حصيرا وينام، وكانت ست أبوها تراوده على استحياء، لكنه يموه الكلام، انتهت المحاولات المستترة بالفتور، فلم تحزن لأن الأمر لا يعيبها، وإنما هى عين «سكسك» التى قلبت الأمور، رحمها الرحمن وجازاها بذنبها.

وفى ليلة من تلك الليالى، انفرجت أسارير قنديل، وقال لها إعملى كوبايتين شاى وتعالى، هسمعك كلام أحلى م المواويل، عاد النمل يزحف فى عروقها، حتى غلت كالشاى، راحت يسبقها شوقها، قال لها بكره السعد جاى، ناس أصول جايين يخطبوا فاطنة، وكل طلباتنا مجابة، البنتة دخلت فى الفتنة، والعين غلابة.

تسامر قنديل مع زوجته، كما فى الأيام الخوالى، ظلت تتملى فى طلعته، وتراه كالبدر فى العلالى، وفجأة قالت: بعد ما فاطنة تتجوز ياحاج، وتسيب بيت أبوها، مش حقك تفكر فى الزواج، سكت قنديل لحظة ثم أجاب باقتضاب: أنا أتجوزت يا ست أبوها!.

النمل الذى كان يزحف فى العروق صار وحوشا ينهش رأسها، دموعها أخمدت بركان الشوق، وأغلقت الباب على نفسها، وراحت تئن فى كتمان.. ليه يا زمان؟

«ليه يازمانى ضعت من يدى/ تعرفش ليه الأيام صارت شين/ والوليف الزين باع ودى/ إيش يعمل الدمع ياعين/ هدى الدموع هدى»

■ الدمع يجرى والفرح يسرى، لا ده دايم، ولا ده دايم، ولا تحلى المسيرة إلا بالحكى والسيرة، غدا نحكى..