هـنا فى قـلب رمال الفيروز، شق الرجال الجبـل، روضوا المستحيل لـيصبح حـقيقة، عـبروا من الحلم إلى الواقع، وزرعوا الأمل فى قلب الصحراء ليطرح لهم الفرح والخير.. فى «الضفة التانية» من قناة السويس الجديدة، يعبرون من جديد العبور الثانى فى صبر وجلـد، يرسمون الغد والمستقبل فى عيون لا تعرف اليأس، وقلوب لا تنبض سوى بحب الله وحب الوطن.
قلوب مرشدها.. ضميرها وعشقها لوطنها.. قلوب جمعتها محبة الوطن.. وقلوب على استعداد للشهادة من أجله، راضين مرضيين لا يخافون سوى الله ويعملون لله والوطن.. يصومون ويصلون، يكبرون ويغنون أنشودة الوطن.
هم الأبطال، سواعدهم تشققت وجباههم غطتها حبات العرق لترسم خريطة مصر الجديدة، هناك شرق قناة السويس الجديدة فى حضن الجبل، أسود فى عرينها تسمع صيحاتهم تشق صمت ليل سيناء، وتردد «الله أكبر وتحيا مصر».. إنه العبور الثانى إلى التعمير بعد عبور التحرير الأول.
فى القطاع الأوسط من مشروع قناة السويس الجديدة، الآلاف من عمال مصر يسابقون الزمن من أجل الانتهاء من تدبيش «تكسية» ضفتى القناة الجديدة، التى ظهرت شريانا يضخ الأمل والعمل فى قلب الوطن، بعد سنوات عجاف كادت تضيع فيها مصر، لولا الله الذى وهب لها شعبا وجيشا يعيشان بقلب واحد.
فى أجواء رمضانية وتحت حرارة الشمس الحارقة التى حولت الوجوه البيضاء إلى بشرة قمحاوية وسمراء، لكنها عجزت عن تغيير القلوب البيضاء.. «المصرى اليوم» بدأت رحلة العبور الثانى من القناتين الأولى والثانية إلى الضفة الشرقية للقناة الجديدة، وتحديدًا فى باطن القناة، حيث يعمل الآلاف من عمال التدبيش فى خلية نحل ليلا ونهارا يصارعون الزمن للانتهاء من تدبيش القناة الجديدة وتسليمها قبل موعد الافتتاح المقرر فى 6 أغسطس المقبل.
الجميع هـنا على قناعة أنهم فى معركة، معركة مع الزمن، ومع أعداء الوطن والمتربصين به.. حماسهم لا يمكن أن يصفه أحد، وطاقتهم فى الصوم أضعاف طاقتهم فى الإفطار.
البداية كانت مع الحاج بكر جريش، ونجله على، أحد المقاولين فى مشروع قناة السويس الجديدة، التقته «المصرى اليوم» على معدية نمرة (6) التى تعبر من القناة الأولى، كان يقود سيارته نصف نقل محملة بأكياس من الطعام والسلع الغذائية (اللحوم والخضار والبطيخ والشاى والسكر)، وأنبوبة بوتاجاز، وبوتاجاز صغير يستخدم للطهى.
كانت الساعة السادسة والنصف مساء، وقبل دقائق من مدفع الإفطار، كان الحاج بكر، متعجلا حتى يلحق بعماله الذين ينتظرونه على الإفطار، طلبت منه أن أعبر معه إلى القناة الثانية فرحب بى، قال: «أنا مقاول تدبيش فى القناة»، فقلت له: «إذن خذنى معك فأنا أبحث عنك وعن رجالك»، فرد قائلا: «خلاص هتفطر معانا».
عبرنا المعدية الأولى وكان الزحام محدودا، وعبرنا سريعا لم نتجاوز 5 دقائق من معدية نمرة 6 وبعدها عبرنا المعدية الثانية فى قناة السويس الجديدة، التى بدأ تشغيلها فى اليوم الأول من رمضان.
عناصر الجيش فى كل مكان، التأمين شديد، جنود مدججون بالسلاح، قوة التأمين الخاصة بالقناة الجديدة بقيادة العميد أركان حرب، طارق حافظ، تجوب كل مكان، رجال على المعديات، تفتش وتراجع أوراق المواطنين والعابرين بكل احترام وود.
عبرنا المعدية الثانية فى القناة الجديدة كان هاتف الحاج بكر يرن، بينما تولى «على» نجله القيادة، وكان على الموبايل نجله الثانى «سيد» يقول له: «بسرعة يا حاج المغرب هيأذن»، وهنا قـرر «على» زيادة السرعة حتى يلحق بالعمال المنتظرين للإفطار.
انحدرنا بالسيارة من أعلى تل الجبل بعد خروجنا من المعدية الى طريق منحنى شديد، يعبر أسفل منصة الافتتاح، حيث المئات من العمال يعملون فى التدبيش، بينما جلسوا جماعات فى دوائر يفترشون الأرض فى انتظار مدفع الإفطار.
تحركنا نحو 5 كيلومترات حتى وصلنا إلى رجال الحاج بكر، هم نحو 75 عامل تدبيش جلسوا فى انتظار الإفطار، وصلت السيارة وبدأ الجميع يردد «حمدا لله على السلامة يا حاج بكر».. فيرد «معلش يا رجال اتأخرنا عليكو».. فرد العمال: «ولا يهمك فاضل 5 دقايق».
وبدأ الحاج «على» توزيع الوجبات على رجاله بمساعدة نجليه وباقى الرجال، وجلس الجميع يتناولون التمر والماء وعند سماع «الله أكبر الله أكبر»، بدأ الرجالة الإفطار مرددين «بسم الله اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، يا رب أصلح حال مصر وتبقى قد الدنيا ويعينك يا سيسى» دعوات العمال لحظة الإفطار.
معركة التحرير
يقول الحاج بكر: «أنا أعمل فى القناة وابنى على منذ بداية المشروع وأول ليلة حفر.. وبصراحة طول عمرى أشتغل مع الجيش ناس محترمة وكلمتهم واحدة ومفيش جنيه بيتأخر لينا». ويضيف أنه أكمل مقاولات الحفر الجاف منذ شهر مع باقى المقاولين، وبدأ على الفور فى التدبيش وحصل على مقاولة 600 متر ونجله «على» حصل على 400 متر، والعمل يتم 24 ساعة لسرعة التسليم قبل موعد الافتتاح.
ويؤكد بكر أنه أكمل بالفعل مقاولته وكذلك نجله على، ولم يبق سوى أمتار قليلة، وأنهما أبلغا اللواء كامل الوزير، المشرف على المشروع، برغبتهما فى الحصول على مزيد من الأمتار، ووافق وسوف ينقلون معداتهم الى الموقع الجديد للعمل خلال ساعات.
الحاج بكر يقول إن العقيدة التى تحركهم جميعاً أنهم فى معركة، وكلهم جنود فيها حتى ننتهى معركة التعمير ويتم افتتاح قناة السويس الجديدة.
يشاركه الرأى نجله على، الذى يصف ما تم من أعمال حتى الآن بأنه معجزة فى التوقيت والإنجاز، مرجعا الفضل فى ذلك إلى الله ثم الانضباط والجدية التى يتميز بها اللواء كامل الوزير، رئيس أركان الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، المشرف على المشروع، والذى يعتبره العمال القائد لهم، وهم جنوده بلا مبالغة.
مهمة وطنية
يتفق معه سيد، المشرف العام على العمل، مؤكداً أنه لولا إشراف الجيش المصرى على المشروع ومعه هيئة قناة السويس، وعلى رأسها الفريق مهاب مميش، رئيس الهيئة، للعمل على مدار الأربع والعشرين ساعة ما كان تم بهذه السرعة، مؤكدا أن روح الوطنية والحماسة التى تسود بين العمل وقناعتهم بأنهم فى مهمة وطنية كانت عنصر الحسم فى الانتهاء من المشروع.
عم نبيل، سائق لودر بالموقع، يقول: «الحمد لله حققنا الحلم وأصبح حقيقة وأقول للرئيس عبدالفتاح السيسى صاحب قرار إقامة القناة ربنا يعينك على مصر ويصلح حالك فتحت لينا لقمة عيش».
وأعرب عن أمله بمزيد من المشروعات الجديدة التى تفتح أبواب الأمل له ولملايين المصريين.
بركة الصيام
محمد أبونصار، أحد المشرفين بالموقع، يقول إنه على الرغم من ارتفاع درجة الحرارة والشمس الحارقة فإن بركة الصيام تمنحنا القوة فى العمل، بالإضافة إلى إحساسنا بأننا فى حرب، الكل يعمل هنا ليلا ونهارا واليوم يمر سريعا ببركة الصيام.
حمادة على وحمادة أبوعياد، من عمال التدبيش بالموقع، يؤكدان أن هدفا واحدا يجمع كل العمال هنا وهو حب مصر، وشعورنا بأننا نبنى تاريخا جديدا يحكيه الآباء للأحفاد.
ويضيف أن اليوم يبدأ فى السادسة صباحا مع الخيوط الأولى للنهار، بعد السحور نحمل الحجارة ونبدأ فى رصها مستخدمين البلاستيك للتبطين فى ضفة القناة، حتى يمنع تسرب المياه والرمال إلى القناة تحت إشراف خبراء هيئة قناة السويس والقوات المسلحة، ورغم عناء العمل فإن الوقت يمر سريعا.
لا مكان للسياسة
محمد نجم، أحد العمال، يقول «أنا لا أهتم بالسياسة ولا أعرف سوى مصر وجيشها وشعبها ورئيسها السيسى الوطنى المحترم.. أنا أعمل هنا ورديتين وأسرتى فخورة بما أفعل ولم يكن همى العائد بقدر حبى لبلدى». يشاركة الرأى حسام عاطف من العمال، ويؤكد أنه ترك أسرته وأهله وجاء للعمل بالقناة ليحكى لعائلته ولأبنائه وأحفاده أن الأجداد بنوا قناة السويس وأنه ومن معه بنوا القناة الحالية، ويوجه رسالة إلى الرئيس السيسى مطالباً إياه بالسماح للعمال الغلابة بحضور حفل الافتتاح.
ويختتم أحمد على حديثه بالتأكيد على ضرورة أن يحب المصريون بلدهم، وأن يتعلموا الحب الحقيقى هنا فى قناة السويس، حيث يتكاتف الجميع من أجل مصر، مسلم ومسيحى إيد واحدة، جيش وشعب إيد واحدة، ويضيف قائلا «هى دى مصر أم الدنيا واللى هتبقى أد الدنيا».
انتهى الإفطار وشرب الشاى والقهوة والعصائر لتدق ساعة العمل، وينادى الحاج بكر على العمال «الهمة يا رجالة على الشغل يلا بينا»، وتركتهم بعد أن أدوا صلاة العشاء والتراويح قبل أن ينطلقوا إلى موقع العمل.