البلدوزر يُجرّف ويهدم.. وماذا بعد؟

طارق الغزالي حرب الأحد 21-06-2015 21:36

من أطرف ما سمعناه فى الفترة الأخيرة حديث الرئيس السيسى فى أحد لقاءاته العلنية الأخيرة عن المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء، بأنه قال له إنه سيعمل كالبلدوزر، ثم التفت إليه وقال «مش شايف بلدوزر ولا حاجة»! فى اليوم التالى مباشرة على ما أظن أراد المهندس محلب أن يثبت للرئيس أنه على قدر كلمته، فاختار إحدى نقاط الضعف فى منظومة الخدمات التى تُقدم للمواطنين وهى منظومة الخدمة الطبية، وقام رئيس الوزراء بهجمة مفاجئة على أحد المعاهد الطبية التعليمية العريقة هو «معهد القلب القومى» استناداً على ما قيل إن به فساداً كبيراً وإن ناتج عمله لا يرقى للمستوى المطلوب بسبب عدم التزام وانضباط الأطباء مع سوء معاملة الفريق الطبى للمرضى والفوضى والإهمال والقذارة. لا أعتقد أن أحداً من المسؤولين الحاليين أو السابقين لا يعرف أن الخدمات الطبية المُقدمة للمرضى المصريين بجميع أماكن تقديم الخدمة خاصة فى المستشفيات العامة التى من المُفترض أن تُقدم فيها الخدمة الطبية المجانية والتأمينية، لا ترقى إلى الحد الأدنى من الجودة المعروفة عالمياً..

وربما لهذا السبب فإننا نلاحظ على مدى السنوات الماضية أن كثيراً من المحافظين الذين يتم تعيينهم لأول مرة، يكون ظهورهم الإعلامى الأول وبالتالى أول أخبار عنهم تتعلق بزيارة مفاجئة لأحد المستشفيات العامة التى يعرف مقدماً أحوالها، حيث يجدها المحافظ فرصة لإظهار اهتمامه بشؤون أهل محافظته وأنه حازم حاسم فى توجهاته ضد التسيب والإهمال، فيُنهى زيارته بقائمة من القرارات تشمل الإيقاف والنقل والجزاءات للطائفة الأكثر غُبناً وقلة حيلة فى هذه الدولة وهم مُقدمو الخدمة الطبية.. وهو يفعل ذلك استغلالاً لعاملين مهمين: الأول هو حالة السيولة وضبابية الرؤية حول النظام الإدارى للدولة، خاصة فيما يختص بلامركزية الإدارة وسلطات الإدارة المحلية، والثانى هو ضعف سُلطة وهيبة نقابة الأطباء كجزء من رؤية الدولة السلبية تجاه منظمات المجتمع المدنى وفى القلب منها النقابات..

إذن فرئيس الوزراء يعلم - كمواطن قبل أى شىء آخر - ماذا يمكن أن يجده فى أى زياره مفاجئة لأى من المستشفيات التابعة للدولة، سواء كانت وزارة الصحة أو التعليم العالى، خاصة أنه علم من وزير الصحة بوجود مشاكل كثيرة فى هذا الصرح الطبى العريق الذى - رغماً عن كل شىء - يقدم خدمات لا غنى عنها لمئات الآلاف من المواطنين غير القادرين ومتوسطى الحال سنوياً..

إذن فلابد أن تثير التغطية الإعلامية المُكثفة للزيارة والطريقة التى تمت بها الشكوك حول الهدف الأساسى لهذه الزيارة. لا اعتراض لدى على الزيارات الميدانية والمفاجئة لكافة المسؤولين خاصة إذا لم تكن لديهم القدرة على تفعيل نظام دائم للرقابة ومتابعة الأداء، ولكنى أسأل نفسى: إذا كان الهدف الأساسى من هذه الزيارة هو الإصلاح الحقيقى ابتغاءً لمرضاة الله والمواطنين وليس أحداً آخر، فألم يكن من الممكن القيام بهذه الزيارة بدون تغطية إعلامية وتصريحات نارية، والاكتفاء بمناقشة علمية وموضوعية مع العاملين بالمعهد ومصارحتهم بما لديه من معلومات والسماع منهم؟ هل كان لابد من «تجريس» المعهد وإعطاء الفرصة للمتربصين بدور الدولة فى الخدمة الطبية للتكسب من وراء هذا التشويه لمعهد عريق يحظى باحترام وتقدير العديد من الشعوب العربية الذين يقصدونه بغرض التعليم والتدريب لأطبائهم والعلاج لمرضاهم؟ ثم ما تلك المركزية العتيقة فى التعامل مع المشكلات وإلى أين ستقودنا، فهذا المعهد يتبع ما يُسمى «هيئة المستشفيات التعليمية» فأين كان رئيس هذه الهيئة الذى لم يظهر فى الصورة قط، وهل تمت إحاطته بما يحدث فى المعهد وما يعانى منه ولم يفعل شيئا مثلاً؟ لقد نجحت سيدى رئيس الوزراء فى مهمتك كبلدوزر فى هدم سُمعة المعهد ولكن ماذا بعد؟

هل بعمليات المقاولات والدهانات وتغيير المواسير وتوفير بعض المعدات سينصلح الحال؟! لقد قمتم بزيارة ثانية للمعهد منذ ثلاثة أيام لتفقد ما تقوم به الهيئة الهندسية للقوات المسلحة من أعمال، فلفت نظرى تصريحان لكم وجدت فيهما جزءاً من الإجابة عن السؤال «وماذا بعد؟» وإن كان ذلك كالعادة تصريحات كلية تغلب عليها صفة الشعارات والأمانى الوردية..

فقد قلتم إن زيارتكم المفاجئة للمعهد كانت إيذاناً بثورة تصحيحية فى مجال الخدمات الطبية وهذا جميل، وقلتم إنكم وجهتم بدراسة عمل نظام لتفرغ الأطباء بالمعهد وهذا أجمل، ولكن هل أعدت حكومتكم العدة لهذا؟ ثورة تصحيحية معناها تغيير جذرى، والتغيير الجذرى لن يتم إلا بنظام جديد للتأمين الصحى الاجتماعى الشامل يحمل العبء الأكبر فى تقديم الخدمة الطبية، والدراسات والقوانين الخاصة بهذا النظام تم إعدادها على مدى سنوات من العمل الجاد، وهى جاهزة للإقرار والتنفيذ، ولكن السؤال الأهم: هل الحكومة على استعداد لتحمل تكاليف هذا النظام ومواجهة ما يترتب عليه من تحديات ومواجهات وعقبات يثيرها أصحاب المصالح بالعزم والحسم الواجبين؟ أشك كثيراً فى ذلك.. وتلك هى القضية وليس المعهد.