السيرة الأبنودية.. فاطنة تقابل «الغول» وتتعلم «الأحزان العادية» (حلقة رقم 4)

كتب: جمال الجمل الأحد 21-06-2015 11:31

لما طالت غربة الحاج قنديل فى التجارة، عاشت زوجته «ست أبوها» ثلاثة أعوام، تكتم فى قلبها صهد الهجر والمرارة، وتنعى بكلماتها المتشككة، عدم إنجابها للولد، فقد تآمرت عليها شقيقته «سكسكة»، وجعلت حياتها فى كبد، لولا ابنتها فاطمة التى بلغت السادسة، وصارت نبع السعد والسلوى، بينما عاشت «سكسكة» كسيحة بائسة، تعانى الفقر والبلوى، لم تعش يوم عز، منذ شاهرت «ست أبوها» وقطعت خلفتها، فلم يظهر أثر للكنز، ولم تبرأ من علتها.

يقول الراوى: ظلت «سكسكة» فقيرة مريضة، تعيش على مساعدات أخيها، بينما أبنود عن بكرة أبيها، تتسامر بالحديث حول ثروتها العريضة، فقد أقسمت يامنة أبوالعلا، بالحميد المجيد، أن المرأة المشكلة، دفنت الكنز تحت مقام جدها الشيخ سعيد، حيث لا يجرؤ إنسان أن يقتحم المكان، ويحفر تحت الضريح، فلما سمع الناس قصة الكساح وانتقام الزمان، قالوا: ذنب ست أبوها عاجل وصريح.

فى تلك الأيام بموسم الحصاد، أنجبت زوجة حسانى الصياد، الولد الثانى، ومن بيتهم المتاخم لكرم النخيل، ارتفعت الأغانى، فى أول الليل، بدأت حفلة السبوع، بينما فاطنة تنام على حجر أمها فى هجوع، بكت ست ابوها بقلب موجوع وصوت مسموع، شعرت فاطنة بسخونة الدموع، وبعد سنوات حكت لابنها «حكاية الغول»، فسجلها تحت عنوان «بنت وولد»، وأنشأ يقول:

استيقظت فاطنة على حجر أمها فى البيت القديم، لتكتشف أنها بنت، وأن ثمة شيئا اسمه الولد، إنه «غولها»، وعفريتها، وسارق هنائها وأمنها، لم تنس البنت أبدا كلمات هذه الأغنية التى مزقت قلب أمها:

«لما قالولى ولد/ اتشد ضهرى واتسند/ لما قالولى غلام/ اتشد ضهرى واستقام/ وكلونى البيض مقشر/ وعليه السمن.. عام/ لما قالولى بنية/ الحيطان مالت عليا/ وكلونى البيض بقشره/ وبدال السمن.. ميه».

ظلت فاطنة منذ ذلك الوقت مشغولة بسؤال الولد والبنت، سألت نفسها: لماذا تنام أمها حزينة، تسكن دموعها تجاويف الخد؟، وأدركت مع الوقت أنها سبب الدمع والهجران و«تلقيح الكلام»، فقد كان على الأم الغلبانة أن تنجب «حسانى» بدلا من «حسنية».

تنام فاطنة فى حضن أمها وهى تستمع للدفوف والطبول تدق، والنسوة يغنين لامرأة أخرى، لأنها انجبت ولدا، تطاردها الأغنيات وتعرف أن أمها مقصودة بهذه المعايرة، وأنها سبب المعايرة، بل هى المعايرة نفسها، المعايرة التى تجعل دمعات أمها تتابع كخيط حبات القمح المنهمر من قمع ماكينة الطحين، تعيد كلمات الأغانى فى نفسها فتكتشف أن قدوم الولد خير، وأم الولد قدمها أخضر بلون الزرع، على عكس أمها التى أنجبت بنتا فصارت رمزا للدموع والحزن والنكد.

انتبهت الأم لأحزان ابنتها الصغيرة ذات البشرة البيضاء والضفائر الذهبية، فضاحكتها، لكن البنت لم تضحك، فأخذت تهدهدها للنوم بأغنيات ذات تأثير مضاد للمعانى التى أحزنتها وأقلقتها..

غنت ست ابوها لابنتها فاطنة:

«ما تفرحيش يا أم الولد/ بكره مراته.. تاخده/ وتحرمك من جَنيه (ما يجنيه)/ اللى يجيبه.. تاخده/ يجيب المشمش فى كمه/ ويحوّد بيه عن أودة أمه/ ويقول لمراته: يا مدللتى/ خبى النقى عن والدتى/ لاحسن والدتى تشوفه/ تنكد عليا أنا وانتى».

تنفرج أسارير فاطنة فستمر الأم فى الغناء:

«خليه.. لا يطلع قاسى/ يضربنى ويفلق راسى/ يكب طبيخه فى الحارة/ ويقول: ده فـ أمى خسارة».. «لما قالوا دى بنية/ قلت الحبيبة جاية/ تكنس لى وتفرش لى/ وتسخن لى الميه».. «لما قالوا عروسة/ قلت المدابح جاموسة/ وعشر حلل بغطاهم/ وعشر معالق منقوشة».

يصدمنا الحفيد الشاعر فيقول: أما البنت الطفلة فقد كانت تعرف تماما أن أمها تكذب، فلم يسمع أحد فى بلدنا أن أحدا ذبح جاموسة ابتهاجا بمولد بنت، أما الحلل والملاعق المنقوشة إن هى إلا من وحى خيال امرأة مهزومة مكسورة الجناح.

أما الشاعر القديم فيلقى بحكمته المتفائلة: إن ضاق الأمر فلا تهج/ فغدا قد يأتى بالفرج، ويدعو غيره بلسان ست ابوها منشداً: إلهى لا تعذبنى، فإنى/ مقر بالذى قد كان منى/ فما لى حيلة، إلا رجائى/ لعفوك إن عفوت، وحسن ظنى.

بعد أيام من بكائية السبوع، وفى نهاية موسم التمور، أرسل الحاج قنديل مرسالا يبشر بالرجوع، انتفض قلب «ست ابوها» من الخوف ومن السرور، فقد اعتادت الحياة وحيدة، والنوم فوق الأشواك، لكنها تشتاق لذلك الرجل الذى اختطفته الغربة البعيدة، وساورتها الشكوك أنه ربما تزوج هناك، لأن واحدة من قريباتها همست لها ذات مساء، بأن الرجل الذى عرف النساء لا يستطيع تحمل ثلاث سنوات بلا امرأة.

فى يوم الوصول، استيقظت «ست أبوها» فى الفجرية، تحممت وتمشطت وسبسبت خصلات فاطنة الذهبية، ثم صعدت إلى سطح البيت تترقب صافرة القطار، تجمع الرجال على المصاطب قرب الدار، همست «ست أبوها» لنفسها: لولا خوف من غضبك يا قنديل لانتظرتك على المحطة، لكنك لم تسمح لى بذلك إلا فى عودتك من الحجاز، بينما تشرح بخيالاتها، انطلقت زغاريد الجارات نيابة عنها، كأن الزمن يعيد لها يوم عرسها، لقد وصل قنديل، واستقبله أهل الدرب بالفرح والتهليل، وبعد الترحاب حمل ابنته فاطنة ودخل من الباب، وفجأة دخل نذير الشؤم يتقافز كالغراب، وألقى قنبلته فى قلب المعركة: البقاء لله يا حاج قنديل، ماتت أختك سكسكة.

تحول الفرح إلى عويل، صرخت يامنة: «بو..ووو..وه» بعلو صوتها، فغمغمت «ست أبوها»: ماجور الشر تواصل الانتقام حتى بموتها.

وللسيرة مسيرة.