عن معارك المعانى.. بين الوفد الشعبى و«الخضر»

عمرو الزنط الجمعة 19-06-2015 21:40

خلال زيارة الرِئيس لألمانيا ظهر على مواقع التواصل الاجتماعى مقطع فيديو يصور صراعا بين أعضاء الـ«وفد الشعبى»، وحزب الخضر الألمانى، والذى انتهى بمطالبة رئِيسة الوفد الألمانى بإنهاء الجلسة، وسط حالة من الاحتقان من الجانب المصرى، رغم أنى لم أستطع الحصول على نسخة كاملة للجلسة، يبدو من الواضح أن الصراع قد نتج عن عدم وجود لغة مشتركة، فبدا أن أعضاء الوفدين يسكنون عوالم فكرية مختلفة ليس بينها نقاط تواصل أو تقاطع.

يبدأ المقطع بتساؤل أحد المصريين بحماس عما قد يفعله الألمان فى حالة تعرض بلادهم لضربات الإرهاب وخطر الفوضى.. أعتقد أنه كان يريد أن يوحى بأنهم سيلجأون لتشديد القبضة الأمنية وتحجيم الحريات والاصطفاف وراء القاِئد. لكن من المرجح أن الألمان نظروا للموضوع بطريقة مغايرة، فربما قالوا لأنفسهم: لقد جربنا هذا النهج من قبل، وهو الذى أدى لتدمير البلاد، ففى سنة ١٩٣٣ كانت ألمانيا قد أكملت عقدا من الزمن فى ظل تجربة ديمقراطية غير مستقرة، حيث تعاقبت الحكومات العاجزة وتفاقمت الصراعات التى انعكست تداعياتها فى شوارع المدن، متجسدة فى حركات عنيفة بين القوى السياسية المختلفة. ومع مطلع الثلاثينيات، مع الكساد الاقتصادى العالمى، تأثرت ألمانيا أكثر من غيرها، وصار الوضع صعبا إلى حد تفاقم أزمات حادة فى السلع الأساسية. كان رد الفعل الألمانى آنذاك هو إعطاء الأكثرية لحزب اعتقدوا أنه سيحقق الاستقرار مضحيا بالحريات، ثم جرى ما جرى.. العبرة التى تعلمها جيل ما بعد الحرب من تلك التجربة تلغى تماما فى الذهن الألمانى الدرس الذى كان يريد أعضاء وفدنا تلقينه لهم.

ومن المرجح أن ما أجج «الصراع» هو وجود علاقات وثيقة بين أعضاء حزب الخضر و«شباب الثورة» المصريين، والبعض منهم فى السجن حاليا. والتعاطف مع هؤلاء يكرسه كون الكثير من أعضاء حزب الخضر أنفسهم من الثوريين السابقين، بل فيهم الراديكالى المتشدد، الذى كان فى شبابه «يريد إسقاط النظام» مثلا، القيادى المعروف للانتفاضات الطلابية التى اجتاحت الغرب عام ١٩٦٨، «كوهن بنديت»، والذى صار عضوا فى البرلمان الأوروبى عن حزب الخضر؛ وأيضا جوسكا فلاشر، الذى أصبح وزيرا للخارجية.. فى سنة ١٩٦٨ انتقد الفيلسوف يورجن هابرماس أساليب الثوار الألمان، التى اعتمدت فقط على المظاهرات كغاية دون عمل سياسى جاد، وإلى نداءات إسقاط النظام بدلا من إصلاحه، لكن النظام التعددى الليبرالى الألمانى، الذى نشأ فى أعقاب أهوال التجربة النازية، استطاع أن يستوعب هؤلاء، لينضموا إلى العملية السياسية ويقوموا بمحاولة الإصلاح- بدلا من الإسقاط - من داخل أجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية.. أعتقد أن أعضاء حزب الخضر ينظرون لثوار يناير من هذه الزاوية كقيادات مستقبلية، حتى وإن كان تنظيمهم السياسى شبه معدوم، ومطالبهم متضاربة وغير واقعية خلال السنوات الأولى.

لكن لماذا قد ظن أعضاء الحزب الألمانى أن نفس التطور- من الثورية الراديكالية المتخبطة إلى العمل المؤسسى من أجل التغيير- كان من الممكن أن يتحقق تحت حكم الإخوان، كما تحقق فى ألمانيا فى ظل التعددية الليبرالية؟ ولماذا لم يستدعوا ذكريات الفاشية عند النظر للإخوان؟ لماذا لم يلاحظوا أن، من حيث الأسس الفكرية على الأقل، الجماعة أقرب إلى المنهج السياسى الشمولى الذى نشأ وازدهر فى أوروبا فى النصف الأول من القرن العشرين؟

ربما جزئيا نتيجة جهل أعضاء «الخضر» بحقيقة أن مؤسسى الجماعة تأثروا بالفكر الفاشى وامتدحوه مباشرة خلال العقود الأولى من تأسيسها. على العكس فالكثير من الأوروبيين، خاصة فى اليسار السياسى، ينظرون للجماعة كممثل لتطلعات جموع شعب كادح ومقموع، تعكس الجماعة تراثه وتقاليده المحافظة، وليس كحركة حداثية فيها أوجه تقارب مع الحركات الشمولية الأوروبية.. وقد ساعد على تدعيم تلك النظرة أن الجماعة أتت للسلطة فى مرحلة ما بعد الثورية، وقيادتها المخضرمة اتبعت مسارا تدريجيا، وأجهزة الدولة لم تطعهم بالكامل فى محاولات بسط السيطرة، ولم تكن لدى الجماعة ميليشيات بقوة الـ«لاس ا» أو الـ«اس اس» التى استخدمها النازى لبسط السيطرة.. فى النهاية ما هو واضح للمراقب عن بعد هو أن المجال العام المصرى أكثر انغلاقا حاليا من أيام الإخوان.

هكذا نظر الألمان للنشطاء كقيادات لمستقبل واعد يتم إجهاضه؛ وللإخوان ربما على أنهم ممثلون لتطلعات جموع شعب كادح «متدين بطبعه»، فى مقاومة طبقة فاسدة ودموية، ولأعضاء الوفد الشعبى على أنهم نفر لا أخلاقى داعم للدموية. ربما هناك تحامل فى تلك النظرة الدونية، لكن من ظلم الوفد فعلا هو الذى تأكد أنه لم يضم مجموعة تعيش فى نفس العالم الفكرى والثقافى الذى يعيش فيه الألمان، رغم أن مصر لا تخلو من الكثير من هؤلاء.