لا يعيبه الكذب.. فهو قاتل! شىء من ذلك يختبئ فى ثنايا خطابنا المجتمعى وقد راح، دفعاً عن الدولة، يحط من شأن مقومات قوتها الشاملة! يروج، لمن يشترى، ثورة لم تجد بعد ترجمتها الصحيحة إلى العالمية.. قيماً وفكراً وهماً.
فواقع الأمر أن الثورة، وإن كانت قيادة جديدة، إلا أنها بالأساس قيم جديدة، تعبر عنها تغيرات مجتمعية جذرية تطال كافة أوجه الحياة؛ فإذا ما بقى الخطاب المجتمعى حبيس قيم النظام البائد، أحاطت بالثورة شكوك مشروعة، ليس لنا أن نتراخى فى مراجعتها بين الحين والآخر.
وبشكل عام، وعلى نحو صحيح، يُشير الخطاب المجتمعى فى مجمله إلى مجموعة من السمات المميزة للمجتمع، فى ظل ظرفه التاريخى والحضارى، وحقيقة ما يعتريه من تفاعلات من شأنها تشكيل وتوجيه حركة المجتمع صوب مستقبله.
وفى المرحلة الاستثنائية الراهنة، يعانى مفهوم العلاقات الدولية «وحشة» ضمن مفردات الخطاب المجتمعى لا يستقيم فى ظلها الزعم ببلوغ مرحلة معتبرة من التقدم على طريق عملية التحول الديمقراطى المنوط به تجسيد قيم وأهداف الثورة المصرية.
فغياب مُدهش باتت فيه حقائق العلاقات الدولية المعاصرة، لم يتخلف عن المشاركة فيه، خبراء ما قبل وبعد الثورة، وكل ثورة!.
ولما كانت السياسة الخارجية منتجا محليا بالأساس، فضلاً عن كونها خاضعة بالقطع لاعتبارات عدة ترتبها عناصر القوة الشاملة للدولة؛ والتى لم تعُد رهن حدود تصنيفاتها التقليدية، عسكرية واقتصادية.. إلى آخر القائمة، فإن قيم الثورة الشعبية من شأنها أن تنجز ما يُطلق عليه «القوة السياسية»، رصداً لسلوك الدولة قياساً على قواعد الديمقراطية، كعنصر فعال فى منظومة عناصر القوة الشاملة للدولة المصرية الحديثة؛ ومن ثم كان الخطاب المجتمعى شديد الدلالة على مدى ما بلغته الثورة من قيمها وأهدافها، وحقيقة ما نملكه من قناعات «بثورتنا».
وعليه، ما أحوجنا إلى مراجعات جادة تنال من رؤيتنا لعلاقاتنا بالمجتمع الدولى بشكل عام، ولقواعد ومعايير السياسة الخارجية المصرية على نحو خاص، فليس التاريخ يذكر أن دولة نهضت ثورتها لتصطدم بجوهر منظومة القيم العالمية، وقد باتت الأخيرة عاملاً رئيساً فى منظومة العلاقات الدولية المعاصرة.
بداية، علينا أن نقبل حقيقة أولية مفادها كون العلاقات الدولية أساسها «المصالح المشتركة»، وتعبيرها الأرقى «الاحترام المتبادل»، وجوهرها «القوة» بمفهومها الشامل؛ ومن ثم علينا استيعاب تذبذب العلاقات الدولية، صعوداً وهبوطاً، كطرح طبيعى لمتغيرات السياسة، وتشابك المصالح وتعقدها، وما يطرأ على موازين القوى من متغيرات، خصماً وإضافة.
والحال كذلك، لنسحب من خطابنا المجتمعى، صيغاً ترتد بنا إلى الماضى سريعاً؛ إذ نظل أسرى «تطابق» وجهات النظر بين البلدين، أو بين الزعيمين!، باعتبارها السبيل إلى التعبير عن مناطق مشتركة من المصالح تعبر عنها رؤى ومواقف سياسية فى ظل سياق تاريخى حاكم.
ولا دلالة حقيقية إذن كون اللقاء بين الزعيمين تناول «القضايا ذات الاهتمام المشترك»، إذا ما كان تأميم القضايا الوطنية الأساسية غير وارد فى ظل «ثورتنا»؛ إذ حل الرأى العام موقعه الطبيعى فى معادلات الحكم، استناداً إلى صدارة مستحقة للمصالح الوطنية فى أجندة العمل الوطنى.
فى هذا السياق، تبدو أهمية إدراك خطابنا المجتمعى جدوى بعض أدوات السياسة الخارجية غير الرائجة على نحو كاف فى أدبياتنا السياسية، فإلى جانب المساعدات الاقتصادية، هناك أدوات تشريعية محل اختبارات ناجحة فى الدرس التاريخى المقارن. بيد أن خصماً من قوتنا السياسية، وظهورنا إلى المصلحة الوطنية، إلى «ملاعبة» الثورة مال الجدل السياسى والقانونى الذى لحق بالقانون 140 لسنة 2014، والذى يجيز لرئيس الجمهورية الموافقة على تسليم المتهمين ونقل المحكوم عليهم من غير المصريين إلى دولهم، لمحاكمتهم أو تنفيذ العقوبة الصادرة بحقهم، متى اقتضت مصلحة الدولة العليا ذلك، وبناء على عرض يقدمه النائب العام وبعد موافقة مجلس الوزراء.
من جهة أخرى، لم تتحرك عن موقعها الأثير، رؤى راكدة، قاصرة عن استيعاب ما تشهده الساحة الإقليمية من تشابكات، لها امتدادات دولية طبيعية؛ فليس إلا «الاستبدال» صيغة حاكمة لرؤاهم؛ إذ هم بالدب الروسى يستبدلون الولايات المتحدة تارة، والصين بالغرب الأوروبى تارة أخرى، وعند البعض يحل الاهتمام بأفريقيا محل الانغماس العربى الشاق، وفى رؤى أخرى «الأمة العربية دائرة الدوائر» فى منظومة الأمن القومى، وفى القلب منها الخليج الغنى، بعد طول معاناة جراء ما جرته علينا «مركزية» القضية الفلسطينية!، بينما الحال أن استراتيجية وطنية واعدة، ما عاد لها أن تهدر بعضاً مما جاء فى تلك «الرؤى» مجتمعة.
من جهة أخرى، علينا أن نعترف بمتغيرات النظام العالمى، وتبعاتها وتداعياتها على الخطوة الوطنية على الساحة الدولية؛ فإذا كانت التغيرات فى تشكيل اللاعبين على الساحة الدولية مردها السريع إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث باتت أهمية المنظمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية، إلى جانب الشركات متعددة وعابرة الجنسيات، من أهم اللاعبين الدوليين، فضلاً عن بعض الشخصيات الدولية البارزة. فإن سقوط الاتحاد السوفيتى مطلع التسعينيات من القرن الماضى، أحدث تغيرات مؤكدة فى قائمة القضايا محل اهتمام المجتمع الدولى، فجاء فى الصدارة منها قضايا البيئة والمناخ، والاتجار فى البشر والمخدرات والسلاح، والهجرة غير المشروعة، فضلاً عن مركزية حقوق الإنسان فى منظومة القيم العالمية. وبالقطع لا تملك الدولة المصرية سبيلاً يبتعد بها عن الانخراط فى المنظومة الدولية، وقبول تحدياتها المعاصرة.
والخلاصة، أن إعادة تعويم الوطن فى المنظومة الدولية، أمر جلل، لا يصح إسناده حصراً إلى الرئيس السيسى، قدر ما نحن فى حاجة إلى خطاب مجتمعى مُشارك، يتبنى ولا يتجاهل ما أفرزته الثورة من قيم إنسانية، بموجبها وفى ظلها، لا يصح أن نتردد فى إجراء معادلات مجتمعية صريحة؛ فرغم أن الثورة تُعلى بالضرورة من أهمية الرأى العام؛ إلا أن القرار السياسى السيادى يعجز عن اللحاق بأهدافه الوطنية إن استهدف بالأساس حيازة قاعدة عريضة داخل أوساط الرأى العام.