قبل ما نبدى القول، نوحد المعبود، حبل الكلام موصول، فى سيرة فتى أبنود، والسيرة مش فردية، عن بطل واحد، السيرة جماعية، والبطل شاهد.
فلما كان عبدالرحمان بن عمران، بارعا فى الحكى والسيرة، فإنه لم يترك من حياته لإنسان كائنا من كان، كبيرة ولا صغيرة، إلا وبنفسه حكاها، بكل دقة وتفصيل، بالكتابة والشفاهة، والوصف والتحليل، فهل من جديد يقال، من كاتب أو ناقد، بعد أن قال الأبنودى ما قال، قبل كل مداح أو حاقد؟، فقد سجل الإحساس، فى الشعر والغنوة، وذكر جميع الناس فى أيامه الحلوة.
يقول الراوى: إن متون السيرة، بحر بلا ضفاف، ليست حكاية أسيرة، بلا رأى أو خلاف، لكنها أسطورة، كثيرة الألوان، تتعدد الصورة، بنظرة الإنسان.
فى روايته «قنديلة» ينقل عبدالرحمن عن «ست أبوها» فيقول: فى الصباح الذى غادر فيه قنديل إلى السويس غادرت شقيقته «سكسكة» إلى بيتها فى غرب أبنود، فأحست «ست أبوها» بالحرية والوجود، فقد استردت بيتها من العقربة الطرشا، وسرت الراحة إلى قلبها كمياه الفيضان فى شقوق الأرض العطشى.
فى ذلك الصباح وقع بصر «ست أبوها» على حفرة مخيفة داخل الدار، ارتعبت من منظرها، ونشف ريقها، حتى صار لسانها قطعة من فخار، لقد دخلت وخرجت كثيرا فى هذه المندرة، وهى تجمع أشياء قنديل قبل المغادرة، فكيف لم تكتشف وجود هذه الهوّة الرهيبة التى يتسع طولها لإنسان أو زكيبة؟ ومن حفرها إنس أم جان؟ وهل حفرت فى ليلة الأمس أم الآن؟.
فكرت «ست أبوها» فى «أبوالحصين» ثم استبعدت الفكرة، فأبوالحصين يحفر جحوره بفتحات عدة، وهى تعرف ذلك منذ مدة، بعدما راقبته كثيرا فى الحى الغربى قرب بيتهم القديم، لكن هذه الحفرة مثل بئر محفورة من أعلى إلى القاع، والأتربة مكومة بعناية كحفر الضباع.
إن إناث الضباع تحفر مثل هذه الحفرة لتلد فيها، وتحمى صغارها من أعاديها، لذلك سميت قرى كثيرا باسم «الضبعية» لأن الضباع تنزلها وتسكنها.
كانت فاطنة تقترب من الحفرة، وكادت أن تنزلق فيها، لكن «ست أبوها» أنقذتها من السقوط فى قاع «البؤرة» وأمسكتها من قدميها، وصرخت بصوت جهير، ثم جلست على قطعة من حصير، فوق بقايا التراب المحفور، والهواجس فى عقلها تدور: هل يجسر الوحش على حفر كل ذلك فى الصباح، والبيت ملىء بالمودعين، وراسلى الرسائل إلى الأقارب فى مجىء ورواح، والحركة لا تستكين؟
سمعت يامنة أبوالعلا، الصرخة المجلجلة، فاندفعت من بيتها المجاور، أزاحت الباب، واندفعت إلى الداخل، تجمع الأحباب واتجهوا إلى «الحاصل»، فوجئوا بالمشهد المهول، فوقفوا فى ذهول، وجمت يامنة والأخريات، كأنهن واقفات على قبر عزيز مات.
توافد الرجال الأشداء، فلفت «ست أبوها» رأسها ووجهها بالطرحة السوداء، لم يستطع أحد حل لغز البورة الرهيبة، فتعاون الرجال على ردمها، واهتمت السيدات بتهدئة فاطنة وأمها، وبينما قال الرجال إن البورة من عمل الوحش والضباع، وحذروا أهل القرية من الخطر والضياع، سألت يامنة فجأة: أين سكسكة؟
قالت ست أبوها فى كرب: عادت إلى بيتها فى الغرب.
قالت يامنة: وجدتها
سألتها ست أبوها باندهاش: وجدت ماذا يا وش الفقر؟
استمرت يامنة فى سؤالها: هل سمعت صياح ديك عند الفجر؟
ردت ست أبوها مستغربة: هل لدينا أكثر من صياح الديوك؟»
قالت يامنة: ياست أبوها أنت مسكينة، الكنز كنزك، واستولت عليه هذه المرأة اللعينة
وبعد صمت مريب صاحت يامنة فجأة بصوت عجيب لا يشبه صوتها، كان خليطا من أصوات رجال ونساء فى حالة جنون، وسألت: هذه الحفرة لم يحفرها بشريون، أين الفؤوس؟ كيف يدقون ويحفرون كل هذه البورة ولا تسمعون؟ إنها ليست من فعل وحش.. أين أثر أقدامه؟ ولماذا اختار بيتكم أنتم؟، ولماذا لم يهشم زرب الجريد على سور الكرم؟.. أين كانت تنام هذه الملعونة؟
أشارت «ست أبوها» إلى سرير الجريد وهى تقول بانهيار: هنا تفرشه كل مساء، ثم ترفعه فى النهار، وتسنده كما ترين إلى الجدار.
قالت يامنة أبوالعلا فى ثقة: لابد أن الديك الذهبى قد زغرد فى الفجر الطالع، إنه ليس كديوكنا، إنه من نور ساطع، يزغرد كطيور الجنة، يسمونه «الديك المرصود»، ننتظره كل العمر، لكنه لا يظهر إلا للموعود، يفتح حفرة فى الأرض مثل هذه البورة ليطل منها كنز الخلاص، فى شكل جرة أو بلاص، مملوء بالذهب، لقد كان الرزق لك والفرصة، وسرقته منك هذه العرسة، وغادرت البيت فى زحمة وداع قنديل، مخبئة جرتها تحت ملاءتها فى ساعة الرحيل.
ردت «ست أبوها» بيأس: كانت عيونى معلقة بقنديل قبل الغيبة
ختمت يامنة الحوار بقولتها: يادى الخيبة!
فى تلك الليلة لم تنم «ست أبوها»، ظلت تفكر فى لعنة «سكسكة» التى تلاحقها، فقد استمرت اللعنة ثلاثة أعوام طوال، امتدت فيها تغريبة قنديل الأخير، ولم يرسل خلالها لزوجته سوى أقوال وأموال، ولابنته سوى أقفاص فاكهة وأقمشة من حرير.
فمتى يعود الغائب؟
الجنوبى ينتظر دهرا ولا يجاوب.