هى ملاحظات سريعة حول الجانب الإعلامى فى زيارة الرئيس السيسى لألمانيا.. لعل أحداً فى الرئاسة يقرأ ويفهم ويصحح ويستفيد من الأخطاء.. لعل أحداً من مسؤولى الإعلام «الخارجى» فى أى من الوزارات المعنية فى بلدنا يسمع ويفكر بعقل مفتوح ويسعى للتطور.. لعل!
فى حوار مع «دير شبيجل» الألمانية، نقلته للعربية «دويتشه فيله»، وتوسعت فى عرضه مجموعات المواقع الإخوانية، قالت الفتاة (فجر العادلى)، التى أحدثت جلبة أثناء المؤتمر الصحفى للرئيس عبدالفتاح السيسى مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إنها ولدت فى ماينز، وإنها تدرس الطب بكلية مانهايم- جامعة هايدلبرج، وإنها تعمل أحيانا صحفية مع إذاعة «راديو راين- فيله»، وإنها عضو فى «الاتحاد (الائتلاف) الألمانى- المصرى من أجل الديمقراطية».
المعلومات التالية طريفة ومهمة.. «الاتحاد أو (الائتلاف)» الذى أشارت إليه ليس له موقع إلكترونى رسمى موثوق، فقط صفحة على «فيس بوك»، تفهم منها ببساطة أنها صفحة إخوانية بالألمانى.
ثانيا- والأهم- أن إذاعة «راديو راين فيله» هى إذاعة محلية تأسست عام 1996، فى منطقة فيسبادن، وجمهورها- حسب الموقع الإلكترونى الرسمى للإذاعة- يصل إلى نصف مليون شخص.
الأطرف: أن الإذاعة لم تبث شيئا عن «جلبة» الفتاة التى «سجلت نفسها» لحضور المؤتمر كصحفية من «راديو راين فيله»، بل لم تبث أى شىء عن زيارة السيسى لألمانيا، ولم تبث أى مواد عن مصر نفسها- وكلها- منذ سنوات، لأنها إذاعة غير معنية بالسياسة ولا بالعالم الخارجى، هى إذاعة محلية للمنوعات!!
الأكثر طرافة: أن الإذاعة لم تبث أى شىء من قبل أعدته أو كتبته أو قدمته الفتاة طالبة الطب «فجر العادلى»، ولا يرد اسمها فى الإذاعة سوى فى «صفحة الضيوف»، حيث كتبت إحداهن فى تعليق (بتوقيع هيلجا مانا)، يوم الجمعة التالى للزيارة، متسائلة: «هل تعمل الفتاة التى زعقت فى مبنى المستشارية لديكم؟»، ولم يرد على السيدة هيلجا أحد.
معنى ذلك أن المسؤولين عن تنظيم المؤتمر الصحفى فى المستشارية الألمانية لم «يدققوا» عمدا أو سهوا فى «صفة الصحفية» والجهة التى تمثلها، أو أنها تسللت إلى مكان المؤتمر الصحفى، وهذا أيضا مسألة مثيرة للريبة، وهو ما لم تشر إليه الصحف الألمانية، وركزت فقط على ما قالته الفتاة «زاعقة» إن السيسى «قاتل.. وفاشى.. ونازى».. والأوصاف بالتأكيد غير صحيحة بالمرة، لكنها مثيرة، مثل السلوك الذى قامت به الفتاة ودفع المصورين لالتقاط صور لها، ودفع مجلة عريقة مثل «دير شبيجل» إلى أن تجرى حوارا معها.
(«العراقة فى المهنة» لا تعنى أن المجلة ليست لها انحيازات معينة، حتى إن صوتا عاقلا موضوعيا وخبيرا بالشأن المصرى لمراسلها العجوز فى القاهرة «فولكهارد فينفور» لا تجد له أثرا فى المقالات والتقارير التى كُتبت فى المجلة وموقعها الإلكترونى حول زيارة السيسى).
هذا عن الجانب «الأكثر إثارة» فى التغطيات الصحفية الألمانية، (ثم الإخوانية الناطقة بالعربية فى العديد من مواقعهم).. نأتى إلى الجوانب الموضوعية الأقل إثارة بالمنطق الصحفى.
فقط نقرأ فى «دير شبيجل» مقالات وتقارير مثل «الرئيس المصرى فى برلين.. ألمانيا تبيع مبادئها»، «زيارة دولة فى برلين.. لماذا رفض لامرت، (رئيس البرلمان الألمانى)، لقاء السيسى؟»، «زيارة السيسى المثيرة للجدل.. كاودر، (زعيم الأغلبية البرلمانية)، فقط يمتدح رئيس مصر»، «الرئيس المصرى فى برلين.. المشكلة فى الشخص».
العناوين وحدها ربما تكفى للإيحاء بمحتوى المقالات.. وخذ على سبيل المثال مقدمتين لتقريرين:
الأول: «الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى فى زيارته لبرلين بحث عن شىء واحد: صور جميلة وعالم مثالى، واتضح شىء آخر، أظهرت الأحداث مدى الانقسام فى بلده».
(يعتمد التقرير بشكل أساسى على واقعة الفتاة وصورها وما قالته ليتحدث عن الانقسام فى مصر).
الثانى: «زيارة الرئيس المصرى لبرلين تواجه انتقادات واسعة، شخص واحد فقط يمتدحه: كاودر يصفه فى التليفزيون المصرى بأنه «رجل مقنع ويتمتع بالمصداقية».
ونقرأ فى «فرانكفورتر ألجماينه» عناوين على شاكلة:
«زيارة السيسى لبرلين.. إنهم يجرون محاكمات سريعة».. والمقدمة موحية بالمحتوى «الرئيس المصرى السيسى يزور ألمانيا، وفى بلاده يلاحق الصحفيين المعارضين، وبعضهم معتقلون بدون محاكمات، والسلطات المصرية تقوم بحملات تشهير».
وعنوان آخر: «قوة السياسة الواقعية».. «برلين تستقبل الرئيس المصرى رغم أنه لم ينفذ إصلاحاته الموعودة، ويدير حملة من القمع الشديد، ما يهم هو نفوذه فى المنطقة».. «التعاون مع مصر.. شريك مشكوك فيه».
لم يكتب هذه المقالات «إخوان» ألمان، بل كتبها صحفيون ليبراليون أو يساريون أو أى شىء آخر، بانحياز ثقافى معين، ولم يكتب أحد- على الأقل فى الصحف الرئيسية الكبرى- متفهما لما شهدته مصر فى 6/30 و7/3، باعتباره خلقا لشرعية جديدة، وهو ما يعنى ببساطة أن صوتنا («صوت مصر الشعبية» أو «صوت نخبتها الثقافية»، أو حتى «صوت رئاستها») لم يغادر بعد حدود مصر، أو جدران سفارتها فى ألمانيا.
المعنى ببساطة أن محاولات المسؤولين الرسميين عن «إعلام خارجى مؤثر» لتغيير نظرة الخارج لما يحدث فى مصر أو التأثير إعلاميا خارج حدودنا من أجل مصلحة بلدنا- إن كانت هناك محاولات جادة بالفعل- فاشلة تماما.
تبقى محاولة موازنة مظاهرات الإخوان المتوقعة سلفا بمظاهرات أنصار الرئيس المدعومة بحضور عشرات الفنانين.
لم تنشر صحف ألمانية «خبرا واحدا مستقلا» عن هذا الحدث الشعبى الموازى.. سفر عشرات الفنانين والممثلين إلى ألمانيا ليقفوا فى الشارع يحملون العلم المصرى ويهتفون كغيرهم من المواطنين العاديين المؤيدين للسيسى، فقط ورد ذكر الحدث فى متن تقارير عدة، دون أى إشارة إلى أنهم فنانون مرموقون لهم شعبية كبيرة فى مصر، أو أنهم كانوا فى صدارة مشاهد الاعتراض على حكم الإخوان.
لا شىء على الإطلاق.. ولا مقابلة صحفية مع أحدهم، حتى فى المجلات الفنية!
ألم يكن من الواجب أن ينظم مسؤولونا الإعلاميون فى ألمانيا، أو إخواننا فى الرئاسة (الأخوة فى المصرية وليس أى شىء آخر)، أو إخواننا الذين لا أعرفهم «فى الوفد الشعبى» أو إخواننا من المقيمين فى ألمانيا الذين يفترض أنهم يعرفونها عن ظهر قلب، لقاءات لبعض هؤلاء الفنانين مع صحف، أو أن ينظموا لهم ندوات فى اتحادات فنية، أو حتى فى السفارة، لكى يحدثوا الألمان (لا أن يحدثوا أنفسهم فى الشارع) عن أن التغيير فى 6/30 كان مطلبا شعبيا حقيقيا وضروريا لكى تتجنب مصر مسار «الفاشية الدينية».
(ملاحظة أخيرة: أليس الأجدر أن يسافر إلى ألمانيا وأوروبا كتاب ومثقفون وفنانون تشكيليون معروفون فى دولها ولهم حضور وعلاقات جيدة بدوائرها الثقافية، ليتحدثوا عما يحدث فى مصر.. تُقام لهم ندوات وتُجرى معهم حوارات.. لا أن تُنشر صفحات إعلانية مدفوعة الأجر يتولى دفعها رجال أعمال «تثور حولهم شبهات فساد وصلة وطيدة بنظام سابق»، ودون أن يكون ذلك مرتبطا زمنيا بزيارات رسمية للرئيس).
لعل أحدا يقرأ ويفهم ويفكر خارج صندوق البيروقراطية النمطى العتيق!