السيرة الأبنودية: عن الميلاد.. قصة «عبرحمان» مع الأفعى المقدسة (حلقة رقم 1)

كتب: جمال الجمل الخميس 18-06-2015 11:19

«بعد المديح فى المكمل، أحمد أبو درب سالك، أحكى فى سيرة واكمل، شاعر عُرِف قبل ذلك، فارس من غير حصان، فى الميدان والديوان، قالوا عنه الكتير، ويسمى عبرحمان».

قال الراوى: كان الناس بين ضرب وكرب، فالعالم يخرج من الحرب الأولى إلى الثانية، والأزمة المالية طاغية، لكن أبنود لم تكن تنشغل بذلك، فهى قرية صغيرة فى أسر المهالك، محصورة بين سدين فى محافظة قنا، الجبل من هناك والنيل من هنا، فى ذلك المكان وذلك الزمان، بين الواقع والسراب، ولد عبدالرحمن من بيت عبدالوهاب، كانت أمه فاطنة قنديلة عائدة من قرية نقادة، بعد أن هاجمتها آلام الولادة، حيث كانت تقيم مع زوجها الشيخ محمود بعيداً عن دار أبيها فى أبنود، وبعد عبور النيل، وركوب قطار وحمار، ولدت طفلها الهزيل، وقدمها اليسرى فى الشارع واليمنى داخل الدار.

فلما ولدت فاطنة بنت قنديل ابنها الهزيل، تصادف ذلك فى أيام الحسومات مع نهاية الثلاثينيات، وهى أيام تسعة، ذات ظروف بشعة، يندر أن يعيش فيها مولود، من إنسان أو حيوان أو دود، وإذا عاش طويلاً فإنه يحيا عليلاً وهزيلاً.

هكذا ولد عبدالرحمن بن محمود بن عبدالوهاب بن عمران بين.. بين، بين الحرب والكرب، بين الجبل والنهر، بين الشارع والبيت، بين العلة والموت.

رغم آلام الولادة ابتسمت فاطنة فى سعادة، ولم تعبأ بحديث النسوة عن المولود الأصفر المعلول، كانت تعرف أنه «مكلول محلول سحلول»، كما قال الولد يوماً عن نفسه فى قولة شهيرة، فقد رأت أمه ذات ظهيرة حمارة تلد جحشة ضعيفة صغيرة، لم تكن تقوى على الوقوف ثانيتين، كلما حاولت النهوض سقطت على الأرض بعد خطوتين.

رأت فاطنة أصحاب الجحشة المهزولة يربطون ركبتيها بحبال مجدولة، ويسندونها برأفة حتى استطاعت الوقوف، فمشت خطواتها بخفة، ثم جرت دون خوف.

يقول الفتى بعد زمان: صممت أمى ألا تتركنى للممات، برغم لعنة الحسومات، ناجت الرب بفيض من الدعاء، خلعت ملابسها وتطهرت فى نقاء، وخرجت إلى الشافى المعافى فى قلب الليل الخافى، وعند استقبال الفجر بكت وتوسلت للحنان المنان أن يخلى لها عبد الرُّحمن، لا يمسه بأذى إنس ولا جان.

عادت فاطنة إلى الدار تمارس بحماس جبار كل ما تعرفه من وصفات للتداوى وتعاويذ ضد السحر، ولما رآها الشيخ محمود على هذا الأمر، قال لها لن ينفع الجهد والصبر، لا تتعلقى بابن الحسومات فهو بلا شك من الأموات، لا مفر، شدى حيلك وهاتى غير، فهذا الولد ليس له عُمر.

فى المساء جمعت فاطنة القريبات، من النسوة الخبيرات، بقيادة أمها كبيرة الحصيفات «ست أبوها» سيدة العنزات، وبدأت فى الطقوس الملغزة لتحقق المعجزة، كان الدعاء ينطلق فى إنشاد جماعى مهيب لعل الشافى يستجيب:

* اللهم خلص الولد من كل شر أو حسد.

* ياعين يا عاينة/ ياردية يا خاينة/ يا عين ياردية/ إطلعى من عشية/ إطلعى من عبد الرحمن واد فاطنة/ بقول الله، وعزايم الله القوية/ اطلعى من ولد الناس/ بالشيح شيحتك/ بالملح ملحتك/ اخرجى زى ما يخرج الميت من ع الحصير/ زى ما تخرج الشعرة م العجين/ زى ما تخرج الطينة م الطحين/ زى ما يخرج الصوف م الخروف/ بقول الله وعزايم الله القوية/ اخرجى.

يعلو نواح فاطنة فى المساء مبللاً بالدمع والدعاء، وتتكرر التعاويذ كالعادة لطرد العين الحسادة، وهى تعاويذ لا تستثنى غريباً ولا قريباً، عدواً ولا حبيباً، حتى عين أمه وعين أبوه، وعين قوم صادفوه، عين عجوزة محنية، أو جارية حبشية، أو واد بطاقية، أو راجل بعمامة، أو عين ضيف أحد من السيف، أو عين مرة أحد من الشرشرة، أو عين أى حد شافه ع الطريق ولا صلاش ع النبى الحبيب. أفلت عبدالرحمن من الموات، لكنه لم يفلت من الحياة.

ولد عبدالرحمن فى بَرمودة مطلع الربيع الفتان، حيث ينحسر الفيضان، وتنشط الرياح وتساعد الخماسين فى تلقيح النباتات، وتكثر العواصف والتقلبات، فبرمودة مأخوذ من اسم «رموتة» وهى أفعى مقدسة اعتبرها الأجداد ربة للحصاد، وفى اللغة الديموطيقية ينتسب برمودة إلى الإله «رِنّو»، وهو إله للموت والرياح العاتية، وفى أبنود يعرف برمودة بأنه شهر الورود القانية.

يقول الراوى: وإذا كان عبدالرحمن بن الشيخ محمود، مولود فى برمودة شهر الورود، فإن أبنود مولودة شهر بابة، أو هى أصل بابة بالتاريخ والكتابة، فقد سمى الشهر نسبة إلى «بى نت رت» إله الزرع عند المصريين القدماء، حيث تكثر فيه الخضرة ويزداد النماء، ولما كان الفيضان يغمر أرض هذه القرية ويميزها بالطمى الأسود الخصيب، فقد بُنى لإله الزرع معبد قريب، ومع الزمن حرف اسم الإله من «بى نوت» إلى «بى نود» ومن بنود إلى أبنود، لأن أهل القرية مثل معظم الصعيد الكرام يضيفون ألفاً فى أول الكلام فيقول امحمد، امبارك، أساحبى.

والكلمة الأخيرة نوردها على سبيل الدعابة، التى لم يكن يخلو منها حديث ابن «بابة»، على السعد نلقاكم والخيرة، وغداً نقطع الحيرة ونكمل السيرة.