هل الديمقراطية حسنة فى ذاتها ولكن لا تصلح لنا؟

حسن حنفي الأربعاء 17-06-2015 21:39

تدور فى خطب أجهزة الإعلام الموالية للنظام السياسى وفى خطب المسؤولين بل الرؤساء الذين يبغون نهضة البلاد أن الديمقراطية حسنة فى ذاتها، لا غبار عليها، تصلح لغيرنا، الغرب المتقدم، ولكنها لا تصلح لنا، الذين ما زالوا يسعون نحو رغيف الخبز ولم يصلوا بعد إليه. ويشيع القول حتى يصبح قاعدة سُلم بها أو آية قرآنية. تستعملها الأنظمة السياسية دفاعا عن الاستبداد ودعوى الخصوصية الحضارية. الديمقراطية تنفع الغرب المتعلم المثقف المتمدن. أما نحن فما زلنا نخطو نحو الحضارة المتقدمة. وما زلنا نتعلم ونتثقف. فالديمقراطية فى هذه المرحلة التى نمر بها ضارة بنا. كيف يسلم الفلاح والعامل كل منهما أمره بيده؟ كيف يقرر الجاهل مصيره بيده؟ ويؤدى ذلك كله إلى كره الديمقراطية وأنها سبب استعمار الغرب واستبداده بغيره، وظهور الرأسمالية. وأخذ الأغنياء حق الفقراء من بيت المال. وهى سبب الإباحة والفحشاء إلى آخر ما نسمع عنه من أخلاق الغرب.

ويؤدى هذا القول إلى رفض الديمقراطية ورفض التحول إليها، وتشريع للاستبداد إلى الأبد. فالديمقراطية حسنة لغيرنا سيئة لنا. ولكل شعب خصوصيته. تسبقها الحرية، حرية الاختيار، ويسبقها العقل، القدرة على التمييز بين الأشياء. ونحن ما زلنا فى الطريق إلى الحرية العاقلة. شرط الديمقراطية. العقل يميز بين الحسن والقبيح. والحرية تختار الحسن دون القبيح. صحيح أننا ضحينا بالمئات فى سبيل الحرية لكن ما زالت ثمارها لم تؤت بعد. لقد ظل الغرب أربعمائة عام يناضل من أجل الحرية، من القرن الحادى عشر إلى الخامس عشر حتى ينال حرية الفكر قبل أن ينال الحرية السياسية فى الديمقراطية. فحرية الفرد قبل حرية الجماعة. وحرية الفكر قبل حرية الفعل، ونحن ما زلنا نراقب حرية الفكر ونجعله لا يتعدى حدود العقيدة أو السياسة.

وقد اتحد الدين والسياسة فى المأثورات الشعبية ضد الديمقراطية. ففى الثقافة الشعبية هناك من يفعل كل شىء فى العالم ولا يمكن الهروب من إرادته. وقد تحول الدين إلى خطاب شعرى سندا للخطاب السياسى. وهو ما أصبح فى المجتمع خطاب «سى السيد». لا فرق بين خطاب الله وخطاب السلطان، خطاب القوة الفريدة التى لا يعصيها أحد. فأصبح من السهل تقمص السلطان صفات الله، والله صفات السلطان. وأصبح الإنسان عبدا للاثنين مطيعا لهما وإلا ناله من العذاب والتعذيب الكثير. فبالإضافة إلى نقد الديمقراطية يبرر الاستبداد.

وقد حاول الإصلاح إيجاد جذور للديمقراطية والحرية فى الاعتزال الذى قضى عليه الغزالى منذ خمسة عشر قرنا فلم يتجرأ محمد عبده إلا أن يكون نصف اعتزالى. فالإنسان عاقل ولكن هذا العقل فى حاجة إلى نبوة. وهو قادر ولكن هذه القدرة فى حاجة إلى هداية أو مساعدة. ثم ضاع هذا النصف الاعتزالى بفضل بزوغ الحركة السلفية والنظم التسلطية الدينية أو العسكرية. فالديمقراطية حسنة فى حد ذاتها وتنفع لنا إذا تخلصنا من جذور التسلط داخل الثقافة الشعبية فى الدين والسياسة، وهى صراعات اجتماعية فى مراحل اجتماعية متعددة تتحول فيها الأغلبية الثقافية الأشعرية إلى أقلية، والأقلية الشعبية الاعتزالية إلى أغلبية. فهو نيل للديمقراطية من الداخل وليس من الخارج، ما يعجب فيها وما لا يعجب، ما يصلح فيها وما لا يصلح. هو تعديل لمسار سلوك الأفراد والشعوب ويمكن أن يرد عليه بالشورى «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»، «وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ» أى الاستشارة وسماع رأى الآخر والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أى فرصة وجود معارضة قوية مثل التى عبر عنها أحد المصلين «والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا». ولا غرابة أن يُقال إن التاريخ الإسلامى كله هو تاريخ الصراع بين السلطة والمعارضة وما سُمى فى التاريخ الفتنة الصغرى والفتنة الكبرى أو الفرق الإسلامية.

إن الديمقراطية لها أشكال متعددة: ديمقراطية الصندوق التى تقوم على عدد الأصوات. وهى الديمقراطية الكمية الفردية. وفيما يتم التلاعب بالأصوات، وتتوقف على دعاية كل مرشح وقدرته على الإنفاق ومدى وعى الناخبين بحقوقهم الاجتماعية والسياسية. وهناك ديمقراطية الاستشارة والتوافق نهاية بإجماع بين الرأيين دون أغلبية وأقلية، أغلبية اليوم أقلية غدا، وأقلية اليوم أغلبية غدا. وبدلا من تعارض المصالح توافق المصالح. المهم هو التعامل مع جوهر الديمقراطية وهو إقصاء الاستبداد، تعريفها سلباً.

إن القصد من هذه العبارة «الديمقراطية حسنة فى ذاتها ولكنها لا تصلح لنا» إرضاء الغرب بالموافقة على الديمقراطية نظرا وعدم رفضها وبالتالى الإعلان عن الانتماء إلى الغرب مذهبا وسياسة. وفى نفس الوقت تغضب العبارة الليبراليين فى الداخل لأنها تقصى الديمقراطية وتدين نظمنا السياسية وتحكم عليها بالاستبداد. تجعل الخير فى الغرب، والشر عندنا. تبرر الاستبداد عندنا لنا وغيرنا، نقبله طوعا وكراهية. نقبل الإحساس بالدونية تجاه الغرب فى الجوهر وليس فى الشكل ونقبل الاستبداد لأنه فى طبيعتنا. ولا يعترض الغرب لأننا ليس مثله، طلاب حرية واستقلال.

ومثل الديمقراطية يقال على العقل والعلم والإنسان والحرية والعدالة الاجتماعية وهى مكونات الحداثة فى الغرب. أما نحن فنعتمد على السحر والخرافة والذكر. وذلك يقوم مقام العقل. وبدلا من العلم تظهر الخرافة والأحجيات والطلسمات والأفاعى واستدعاء الجن. وبدلا من الإنسان والتوجه نحوه يتم التوجه نحو الغيبيات واستدعاء ما لا يرى. وبدلا من الحرية يتم استدعاء القوى الوهمية لجلب ما يراد. وبدلا من العدالة الاجتماعية يكون التفاوت بين الأغنياء والفقراء والتركيب الطبقى حتى يسير المجتمع بين الأعلى والأدنى. وهكذا تتأكد نظرة الاستشراق التى كانت سائدة فى القرن التاسع عشر بالتمييز بين عقليتين، عقلية بدائية وعقلية متقدمة، وبين مجتمعين، مجتمع متخلف ومجتمع متقدم. وهذه المرة ينشأ الاستشراق بأيدينا دون أن ندرى.

إن الإحساس بالدونية مانع للتقدم، لأنه إدانة للذات بالذات. فى حين أن التقدم فى حاجة إلى الإحساس بالعلو. ولدينا مقومات الإحساس بالعلو، البعث واستمرار الحياة فى عالم من العدل والمساواة. إن الذى لا يتقدم يتوقف. والذى يتوقف يتأخر. والتأخير غير التقدم. لقد استطاع لسنج فى الفلسفة الغربية تحويل الوحى إلى تقدم لأن جوهره هو التقدم، من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام. والهيجلى يقول من الموضوع إلى نقيض الموضوع إلى مركب الموضوع. هكذا كان التقدم بيد الأنبياء، من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام آخر الرسالات. ثم يستمر التقدم بيد الإنسان، فكيف تكون الديمقراطية ليست لنا وهى عماد التقدم؟ وإذا كان القرآن لم يذكر لفظ «شاور» إلا مرتين «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»، «وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ» فإن فى الأمثلة الشعبية ما يؤكد ضرورة الاستشارة «لا خاب من استشار».