عن الفطرة وهؤلاء الذين يحِنُّون إلى أوطانهم
يَعتَقِد باطمئنان كبير أن كل ما هو فطرة أعمق وأصدق من كل ما هو فكرة. شغفه بعالم الكائنات البرية لم يَكُف عن إبهاره بعلو سوية هذه الكائنات مقارنة بزيغ الكثيرين من البشر. من هذه الكائنات الفطرية يستمد الدعم لإحساسه بمعنى «الوطن». عاش من قبل فى مغتَرَب كجنة أرضية لكنه لم يكن يحلم فى نومه إلا بالفراديس شديدة التواضع فى وطنه البسيط القديم. يخبره التاريخ أن مقولة تلاشى الدولة الوطنية بذرائع دينية أو دنيوية محضُ وهمٍ أو أكذوبةٍ أو تغرير. بادت كل الإمبراطوريات والقيصريات والخلافات والعولمات اليمينية والدوليات اليسارية وبقيت دول الأوطان. سيرة أصدقائه من الطيور والأسماك والحشرات والثدييات تؤكد له حقيقة فطرة الوطن. فطرة متى ما جافاها البشر تتفجَّر الخطايا الكبرى التى تدمر بلداناً وتسحق شعوباً وتهبط بالبشرية إلى أدنى سفول الحضيض. ما من سلوك فردى أو جماعى دميم يؤذى الأرض والناس إلا وراءه تشوه فى مفهوم الوطن والإحساس بمعناه. ما من جنوح تدميرى لأفراد أو جماعات أو تنظيمات أو نُظُم حكم أو حكام متسلطين إلا نتيجة اختلال أو خَبَال فى إدراك المعنى العادل للوطن. من يحس معنى الوطن بأى قدرٍ من سوية الفطرة لا يسىء للوطن ومن عليه. بشراً أو حجراً أو شجراً أو كائنات. استبداداً أو اضطهاداً أو ترويعاً أو تدميراً أو تنكيلاً أو تلويثاً أو تدنيساً بالكراهية أو بالتسلط. وويل لمن يجافى سوية الفطرة. وأى فطرة. فطرة تحمل رسالتها كائنات تجترح فى سبيل العودة إلى أوطانها معجزات تُذهل الألباب، أسفاراً أسطورية طويلة وشاقة، وآية أسطوريتها ذلك الصوم الوداعى المذهل النبيل.
ظباء الكاريبو، الفراشات الملكية، طيور الخرشنة القطبية، قشريات السرطان الناسك، أسماك سالمون المحيط الهادى، ثعابين الحنكليس البحرية، حيتان البالين والحيتان الحدباء، قشريات السلطعون الأحمر، السلاحف البحرية الخضراء، وغيرهم كثير كثير. كائنات تستهلك طاقتها رحلة النزوح الاضطرارى عندما تضربها تقلبات المناخ فى أوطانها. لكنها تعود بكامل اختيارها متى ما ترفق المناخ بالحياة فى الأوطان. تعود لهفى وهى تعلم أنها لن تنعم بعودتها طويلاً. لديها رسالة عاجلة وأمانة ملحة لابد أن تسلمها فوراً لأوطانها: أن تتزاوج للمرة الوحيدة غالباً وغالباً الأخيرة، ثم تستودع ذريتها حضن الوطن الذى تنسمت فيه هى وآباؤها وأجدادها أول رحيق للحياة. أعز رحيق للحياة. تمنح الوطن أحياءً ليصير وطناً، فالأوطان بغير قاطنيها من الأحياء جمادات ومحض موات.
رفيف العودة
أول الخريف
إنه الخريف فى الشمال الأمريكى والجنوب الكندى حول البحيرات العظيمة التى تشرع صفحات مياهها فى الارتجاف. ريح باردة تعلن عن قرب هجوم الشتاء وهطول الثلوج. نهارات تقصر وعتمات ليالٍ تطول. وفى آخر سطوعات ضوء الشمس على مشارف الشتاء تتألق مئات مئات الملايين من الفراشات مذهلة البهاء. خفيفة تكاد الواحدة منها لا تتجاوز العشرة جرامات وزناً لكنها فسيحة الأجنحة المشغولة بزخارف من برتقالية دافئة وحُلكةٍ مخملية وتنقيط سُكَّرى البياض. أجنحة مداها عشرة سنتيمترات وأكثر. تزهو بجمال زاخر ينطوى على إنذار للمعتدين. اجتماع اللون البرتقالى الحار أو الأصفر الفاقع مع اللون الأسود العميق فى عالم الحشرات لغة تخيف المفترسين. جملة لونية تصرخ فى وجوه القتلة «احذروا سُمِّىَ القاتل». وفى هذه الفراشات بالفعل سمٌ قاتل. سم يُميت مفترسيها دون أن يصيبها بأذى. سم ترضعه مع ما تأكله من نباتها الوطنى المفضل منذ خروجها من البيض يرقات. حتى يرقاتها تتبدى جميلة فيما نباتها الوطنى جميل كذلك. فى العربية يُسمَّى هذا النبات الراعى لتلك الفراشات «الصُقلاب» وفى الإنجليزية «عشبة الحليب» Milkweed. أوراقه ملساء خُضر وزهوره عنقودية بألوان عديدة. فى الأوراق والفروع نسغ حليبى القوام والبياض يحتوى مادة الكاردانوليد cardenolide السامة. تتناوله يرقات هذه الفراشات وهى تأكل من أوراق تلك العشبة فلا يؤذيها. ثم ينتقل من اليرقات إلى الخادرات فى الشرانق التى تتعلق بأعناق أوراق النبات ذاته فلا تتأثر. وتخرج الفراشات كاملة البهاء من شرانقها وهى منطوية على هذا السر الذى يقتل قاتليها إن تمادوا. تصرعهم بالسكتات القلبية إن أفرطوا فى افتراسها. وتكفهم عنها بالقىء والإعياء إن اكتفوا بتذوق طعمها المر. ترتشف الفراشات رحيق زهور عشبة الحليب هذه طوال الصيف تحسباً لما هو آتٍ بعد الخريف. وتتخذ فى الخريف من ذؤابات هذه العشبة منصات انطلاق إلى المهجر الاضطرارى العابر البعيد فى الشتاء. تكون مزودة بوقود الرحلة ومحصنة ضد قُطَّاع الطرق فى الهواء وهى تطير وعلى الأرض إن حطت وعلى الأغصان عندما تأوى. وكأن أوطانها التى قدمت إليها هذه العشبة أمٌ تدعم بنيها الرِّقاق بزاد الرحلة الطويلة وتعاويذ الحماية عند الاغتراب. ورحلتها قَدَر واغترابها اضطرار.
باتجاه الشتاء
يسميها البشر لفرط جمالها الأخَّاذ «الفراشات الملكية» Monarch butterfly. لكن الجمال ليس محمياً من قَدَرِ العناء، ولا الملوك والملكات مستثنين من تذوق شقاءات الحياة. وهاهو ناقوس بلا صوت داخلها يناديها لتبدأ رحلة الشجن الطويلة قبل حلول الشتاء الشمالى الساحق. قرابة خمسة آلاف كيلومتر يكون عليها أن تقطعها لتصل إلى مرفأ الأمان الشتوى فى الجنوب. يصير رفيف مئات مئات ملايين الأزواج من الأجنحة الخلابة ضجيجاً مُقبِضاً فى خريف الشمال الغائم. تترقش صفحة السماء الرمادية بجحافل أسراب الفراشات المُتجهة جنوباً. كيف تعرف هذه الكائنات مسار رحلتها الطويلة بكل هذه الدقة؟ إنها تيمم شطر منطقة محددة فى المهجر الجنوبى لا تتجاوز 460 كيلومتراً مربعاً. تلوذ بدفئها النسبى حتى يمضى شتاء الصقيع القارس فى الوطن. كيف؟
نحو أغصان المهجر
ثمة أعجوبة ومأثرة فى هذا البلوغ الدقيق للهدف. بوصلة شمسية فى كيان هذه الفراشات تحدد بها مسار هذه الرحلة الطويلة دون أدنى خطأ. برنامج حى لتحديد المواقع بالغ الدقة يربط ما بين عيون هذه الطيور والحواسيب الحيوية فى أمخاخها. تحليل فيزيائى رياضى حيوى يتحسس أخفت تدرجات أضواء السماء والأشعة فوق البنفسجية وينسبها إلى الوقت فيحدد ارتفاع الشمس فى قبة السماء نهاراً ومواقع النجوم فى الليل. ومن تلك الفيزياء الفلكية الحية العبقرية يتحدد خط سير الرحلة. ولا يُستبعد أن تكون لديها أيضاً بوصلة حيوية تعمل على مغناطيسية الأرض. تسترشد بها حين تغيم سماء الليل فتحجب النجوم أو تربَّدُّ سماء النهار فتخبئ الشمس. معطيات دقيقة ينقلها الجهاز العصبى إلى الجهاز الحركى فى الأجنحة والجسم فيُنَفِّذ الرحلة بدقة طيارٍ آلىٍّ مدهشٍ. مُعجِزٍ وحكيم. وهاهى مئات مئات ملايين الفراشات الملكية تحط بعد عناء الإبحار الطويل فى الهواء على أغصان أشجار غابة المرتفعات المكسيكية. فى منطقة «ميتشواكان» دون غيرها. ومن السماء يرصد التصوير الفضائى كيف يُغيِّر هذا النزوح الملايينى ألوان تلك الغابة فى النهار. تظهر فى رحاب اخضرارها مساحات بنية ذات وميض برتقالى. إنه أثر تراكم ملايين ملايين الفراشات اللاجئة على أغصان أشجار الغابة الجبلية وفروعها والجذوع. تكاد معظم الأغصان تئن من ثقل ما يتكاثف عليها من آلاف هذه الفراشات وتختفى الجذوع تحت غطاء كثيف من تراكم الملوك والملكات فى معسكرات هذا النزوح الاضطرارى العابر.
سُبات وصحو
يبدو دفء الشتاء المكسيكى عطوفاً فتدخل الفراشات فى سبات شتوى طويل. كأنها تريد طى شجون الاغتراب فى غيابة السُّبات. أربعة شهور كاملة تقضيها الفراشات الملكية فى بيات شتوى بهذه الغابة المكسيكية الجبلية المعزولة. يتكاثف صقيع الليل جليداً على أجنحتها فلا تدرى، وتشرق الشمس صباحاً فتذيب الجليد وهى أيضاً لا تدرى. وفى ضعف سُباتها العميم تكون قوة ما أمدها به الوطن العزيز البعيد مستيقظة. إنه سم غذاء نشأتها الأولى من نبات عشبة الحليب الحميمة. كأنه يحرسها وهى غافية فيصرع مُستهدفيها أو يردعهم. وتهل بشائر الربيع أخيراً فى المهجر. يهرب دهاة المفترسين أمام شعب الفراشات الذى تدب فيه الحركة بعد السكون. صحوة بلايين الفراشات تشكل هولاً فى الغابة لو أن كل فراشة حركت جناحاً برفَّة استيقاظ صغيرة. تنبض هامات الشجر وتخفق الأغصان وتشيع فى عبق الهواء المشمس بهجة الرفيف. تكسر الفراشات الملكية المستيقظة صومها الطويل برشفات من الندى المتكاثف على أوراق شجر الصباح. ويكون أول طيرانها باتجاه حواف الغدران وبرك الماء الصغيرة. تتزاحم لتكمل ارتواءها اليسير الأخير تأهباً لرحلة العودة الطويلة إلى الوطن.
العناق يرتجى الألفة
ترتفع حشود الفراشات الملكية فى غيمات برتقالية ذهبية تنداح على زرقة سماء الربيع الصافية وتعلو بأقصى ما تستطيع. وللدهشة البالغة يكتشف العلماء أن وقت رحلة الرجوع إلى الوطن يكون أقصر كثيراً من وقت رحلة النزوح بينما المسافة فى الحالتين واحدة. لا تفسير لهذا اللغز إلا أن الفراشات فى رحلة عودتها إلى الأوطان لا تتوقف للطعام أو الشراب طويلاً ولا حتى تنشغل بالتزاوج. معروف أنها فى رحلة العودة لا تكون نشطة جنسياً رغم اكتمال تكوينها وبلوغها. لا تنشط للعناق والتزاوج إلا فى الوطن ولا تتجلى خصوبتها إلا على قمم نبات «عشبة الحليب» الحميمة الأليفة. صوم إضافى حتى عن الحب يفسر مزيداً سر اختصار زمن العودة عن زمن النزوح. هو صوم تُرجِّحه صيامات أخرى عديدة فى رحلات عودة مماثلة إلى الأوطان تجترحها كائنات أخرى فى البر والبحر كما فى الهواء. الأيائل القطبية وسلطعونات جزيرة الكريسماس الحمراء وأسماك سلمون المحيط الهادى وطيور الخرشنة القطبية. لا وقت للطعام والحب ما دامت الأوطان تنادى. فى حماها سيطيب الطعام ويزهو الحب فليكن الصوم. يُقدَّر أن هذه الفراشات تطير ما بين 80 و160 كيلومتراً فى اليوم الواحد وتستغرق رحلة عودتها إلى الوطن شهرين كاملين. إنجاز خارق وصوم عظيم. وكأن لهفة العودة تُسكت صرخات الأحشاء الجائعة وتُرجئ أشواق العناق إلى حين الوصول. ما أبهج حلم الوصول!
الربيع الأخير
قرابة خمسة آلاف كيلومتر يغلب عليها الصوم والحبور تقطعها الفراشات الملكية نحو الوطن الأم فى الشمال. تعود إلى ممالكها الحميمة مُنتعِشة زاهية برغم عناء رحلة الإياب الطويلة الزاهدة. تبحث عن عروشها من نباتها المفضل فى ربيع الأوطان. يطيب لها رحيق الأزهار فتخطر بينها وترف كأنها تروم الرقص قبل الطعام. وهى فى هناءة العودة لا تطمع فى المزيد. يكفيها قليل الرحيق زاداً للرفيف ورقصة الحب والعناق الأخير فى هواء النشأة الأولى. كأنها تُعلِن عن رضاها بحُسن الختام الوشيك فى بيت الأهل والأجداد وأجداد الأجداد. تحلق عالياً وتدور فى تحليقها للمرة الأخيرة كأنها تودع هواء وطنها ثم تحط على المهاد الخضر لنبات عشب الحليب. لقد ذاقت شجون الهجرة مرة لن تكررها وليس فى مقدورها أن تكررها. دورها الآن أن تضع بيض الجيل الجديد الذى سيهاجر مضطراً كما اضطرت هى فى الخريف الماضى. وهاهى وادعةً سَكْرَى تبذر بيضاتها واحدة تلو أخرى فى نسق جميل على أوراق النبات الصدوق. تضع كل فراشة نهلت من الحب ما يكفى ما بين 290 و1180 بيضة. عدد ضخم يفسر أعداد هذه الفراشات البليونية ذات العمر الأطول بين الفراشات. تتوالد بأربعة أجيال فى الموسم الواحد. ثلاثة أجيال قصار العمر يُسلم بعضها بعضاً لينتج الجيل الرابع الذى يُعمِّر عاماً كاملاً. يَعْبُر صيفَه ويهاجر فى خريفه ويدخل البيات فى شتاء المهجر ويُقفل عائداً فى الربيع. وهاهو يعود مع قرب انقضاء العمر إلى وطنه الأم. تنهى الفراشات الملكية من الجيل الرابع تسليم أمانتها الأخيرة. رسالتها الكبيرة. وتَرِفُّ مُنداحةً فى سكون. لن تنتظر خريفاً يدفعها إلى الرحيل. ولن تكون هنا أو هناك فى شتاءٍ قارسٍ أو دافئ. يكفيها الآن أنها هنا. فى ألفة تمضى. وفى سلام تَرُوح.