حسمت المحكمة العليا الأمريكية الأسبوع الماضى جدلا مثارا منذ أكثر من عقد بخصوص القدس. فقد رفضت بواقع ستة أصوات إلى ثلاثة قانونا كان قد أصدره الكونجرس فى عام 2002 يعطى مواليد مدينة القدس الحق فى وضع «إسرائيل» فى خانة الدولة التابع لها محل الميلاد. وأصل الحكاية أن زوجين يتمتعان بالجنسيتين الأمريكية والإسرائيلية كانا قد طلبا وضع اسم إسرائيل فى جواز السفر باعتبارها الدولة التى ولد فيها ابنهما المولود فى القدس. وحين رفضت الخارجية الأمريكية، باعتبار أن القدس، وفق الموقف الأمريكى الرسمى «متنازع عليها» ومتروكة للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، رفع الزوجان الأمر للقضاء، حتى أصدرت المحكمة العليا حكمها الأسبوع الماضى.
والحكم جدير بالمناقشة من زوايا عدة. فالمحكمة العليا الأمريكية، المكونة من تسعة قضاة، منقسمة على نفسها حتى صارت أكثر أحكامها تصدر بأغلبية صوت واحد فقط. لكن الحكم، فى هذا الموضوع، صدر بأغلبية واضحة. ورغم أن الكثيرين فى الولايات المتحدة اعتبروا أن من أهم دلالات الحكم أن القضاة اليهود الثلاثة فى المحكمة صوتوا ضد إدراج اسم إسرائيل فى خانة الدولة التابعة لها القدس، إلا أن تلك ليست القضية فى تقديرى لأن هؤلاء القضاة الثلاثة جميعهم على اليسار مقارنة بالآخرين، وهو العامل الأكثر حسما فى تصويتهم عادة. أما الدلالات المهمة للقضية فتتعلق بأمرين ليس من بينهما ديانة القضاة، أولهما أن القضية تتعلق بالصراع الدائر بين الكونجرس والرئاسة حول صنع السياسة الخارجية وثانيهما أن المحكمة العليا لم تعد بعيدة عن ضغوط لوبى إسرائيل. فمن المعروف لكل من يتابع النظام السياسى الأمريكى الدور الهائل الذى تلعبه جماعات المصالح. وتأثير المال فى الانتخابات الأمريكية يضاعف من نفوذ تلك الجماعات. بل إن قرارات للمحكمة العليا فى السنوات الأخيرة كانت قد ضاعفت من التأثير الخطير للمال على العملية السياسية، بحيث صار من الممكن لعدد محدود ممن يملكون أموالا طائلة التأثير فى مسار التشريع بل وصنع السياسة برمتها فى واشنطن. وهناك عدد من أصحاب المليارات من أنصار إسرائيل يلعبون اليوم دورا بالغ التأثير على الديمقراطيين والجمهوريين المرشحين للكونجرس والرئاسة. لكن رغم أن لوبى إسرائيل لعب منذ التسعينيات دورا مهما فى إصدار سلسلة قوانين تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فقد ظلت المؤسسة التنفيذية الأمريكية، بغض النظر عن تولى الجمهوريين أو الديمقراطيين، تتخذ موقفا مخالفا للكونجرس ومرتبطا بالسياق والقانون الدوليين للقدس. لذلك فإن حكم المحكمة يقوم فى جوهره على الفصل فى النزاع بين المؤسستين التشريعية والتنفيذية حول صنع السياسة الخارجية وتحديدا فيما يتعلق بالاعتراف بالدول الأجنبية وسيادتها. وجاء فى الحيثيات على لسان القاضى أنتونى كيندى، اليمينى بالمناسبة، أنه «خلال المائة عام الأخيرة، نادرا ما ثار الجدل حول سلطة الرئيس فى الاعتراف بالدول الأجنبية». بعبارة أخرى، فإن الحكم كان يفصل فى نزاع المؤسستين، فحسمه فى مسألة الاعتراف بالدول، تحديدا، لصالح المؤسسة التنفيذية. لكن لأن الجديد فى واشنطن هو الدفع بالقضاء الأمريكى لمعترك دعم إسرائيل بشأن عدد من الموضوعات، كانت مسألة القدس مجرد واحدة منها، فإن المستقبل يحفل بموضوعات ستنظرها المحكمة كلا على حدة، وقد لا تنحاز فيها بالضرورة للمؤسسة التنفيذية سواء فى صنع السياسة الخارجية عموما أو فيما يتعلق منها بإسرائيل على وجه الخصوص.