كم مرة طلبت منك بطاقة هويتك الشخصية؟ كم مرة أخرجت من حقيبتك تلك البطاقة الصغيرة المدون عليها اسمك وتاريخ ميلادك ورقمك القومى، عنوانك ومهنتك وصورة غريبة تشبهك؟ كلنا تعرض لذلك عشرات المرات، فهذه البطاقة تمثلك، وهذا الرقم القومي هويتك الرقمية أمام المؤسسات الرسمية.
بطاقات الهوية نقدمها للآخر لنعلن عن أنفسنا في كلمتين وبس، هذا هو نحن، ولكن أمام أنفسنا من نكون؟ هل تعرف حقيقة نفسك؟ لو إجابتك بنعم هل أنت واثق من إجابتك؟
بعد الحرب العالمية الثانية، عرف العالم بصفة عامة والغرب بصفة خاصة معنى العبثية والاغتراب وفقدان الهوية، فشلت الأيديولوجيات الكبرى في القرن العشرين في الإجابة عن طابور من الأسئلة يبدأ بلماذا؟ حاول العلم أن يجيب بطريقته، قدم بدائل: ثورة في الاتصالات وتقدما تكنولوجيا مذهلا واكتشافات واختراعات تفوق الخيال .
هذا التقدم العلمي لم يواكبه تقدم في المفاهيم بنفس القوة والصلابة بل حدث العكس، كتب كثيرون عن ذلك منهم عالم الاجتماع البولندى زيجمونت باومان في كتابه «الحداثة السائلة» الصادر في عام 2000، تحدث فيه عن تغير الأشكال الاجتماعية باستمرار وبسرعة كبيرة، وهو ما أحدث تحولات جذرية في تجربة الإنسان، الذي أصبح فجأة بلا خبرة سابقة ولم يعرف كيف يتصرف حيال هذه السيولة في العلاقات، لأن ليس لديه مفاهيم قوية وواضحة يمكن القياس عليها.
الأمر لم يقتصرعلى العلاقات الاجتماعية ولكنه طال الهويات القومية والطبقية أيضا، فهذه الأخيرة تعرضت للسيولة مع نهاية الحرب الباردة وما تبعها من تطورات أخرى وانتشار فكرة العولمة.
تضررت الهوية الشخصية التي عرفها إريكسون بأنها :«الوعي الذاتي المهم بالنسبة للاستمرارية الشخصية، وفلسفة الحياة التي يمكن أن توجه الفرد، وتساعده في الاختيار، بين إمكانيات متعددة» عندما يفقد شخص هذا الوعى يفقد البوصلة، لا يصبح لديه أفكار ثابتة وواضحة يمكنها أن تحدد له خطواته، فماذا يفعل؟ يحدث له بلبلة في المفاهيم وارتباك في الأداء، وهذا الأخير هو السلوك السائد في عالم اليوم، يبدو على المستوى الشخصى والدولي والصراع والحروب.
القرن الواحد والعشرون هو قرن البحث عن الهوية. فقدان الهوية الشخصية والكينونة والوعي الذاتي ليس بالأمر الهين، وهي مفاهيم ومشاعر عصية على التشريح والاختبار في المعمل لدراستها.
الأدب يحاول أن يجيب عما يعجز العلم عن اكتشافه في المعمل، الأديب الروسى تشيكوف يصف أدبه قائلا: لقد أردت فحسب أن أقول للناس بصدق وصراحة: انظروا إلى أنفسكم، انظروا كيف تحيون حياة سيئة ومملة، أهم شىء أن يفهم الناس ذلك، وعندما يفهمون سيشيدون حتما حياة أخرى أفضل، ولن أراها، ولكني أعرف أنها ستكون حياة مختلفة تماما، لا تشبه هذه الحياة. وطالما لم تحل فسوف أظل أردد للناس مرة بعد مرة: فلتفهموا كيف تحيون حياة سيئة مملة».
ربما ذلك ما جعل جائزة نوبل للآداب تذهب العام الماضى للكاتب الفرنسي باتريك مونديانو، فهذا الأديب جعل من فاقدي الهوية أبطالا لرواياته، وهم ضحايا العلاقات التي ليس لها جذور ولا أفق، أشخاص نقابلهم كل يوم، ولا يلفتون أنظارنا، يعذبهم إهمال العالم لهم، يبحثون في الماضي عن ذكريات يحتمون بها من حاضر مؤلم ومستقبل غامض، في روايته «المجهولات» يحكي قصص ثلاث فتيات في مرحلة ما بين المراهقة والشباب المبكر كلهن دون التاسعة عشرة، وحيدات دون أسر تعطف عليهن أو أصدقاء يساندوهن، يفررن من مسقط رأسهن المظلمة إلى نقط ضوء، ظنا منهن أنه ربما تتغير حظوظهن في الحياة، يتعلقن بأى لمسة حب أو دفء إنساني، لكنهن يصبن بخيبة الأمل، بطلة القصة الأولى تكتشف أنها ليست سوى شقراء مجهولة الهوية، والثانية لم ينقذها صندوق ذكريات أبيها، الذي استخدمت مسدسه لتعلن هي الأخرى عن خيبة أملها وفجاجة الناس الذين لا يحترمون هويتها المتواضعة، والثالثة تحاول أن تعوض خسارتها لصورتها مع حبيبها بالانتماء لمدرسة فكرية تجد مع تابعيها بعض الرأفة المشروطة باعتناقها أفكارهم.
الأدب الجيد طبيب النفس يضع يده على مواقع الخلل، يكبرها ويضعها تحت أعيننا لندركها ونعيها، لا يعطي حلولا ولا يقدم إجابات، يغيرنا ببطء وعلى مهل حين يتسلل إلى ذواتنا ويختلط بأرواحنا.