أتحسس رأسى وعقلى كلما سمعت بعض المصطلحات التي تتكرر في البيانات والوثائق والتصريحات والمقالات التي تتعلق بقضية تجديد الخطاب الدينى، إذ تبدو لى محاولة ساذجة للاعتراض على المهمة، وللتهرب من مسؤولية القيام بها، سواء بوضع عراقيل تحول دون إنجازها، أو بإثارة الشكوك حول النوايا الخفية- أو الخبيثة- التي يضمرها الذين يدعون إليها أو يتحمسون لإتمامها.
أبرز هذه المصطلحات هو «آليات تجديد الخطاب الدينى»، وهو مصطلح ينصرف إلى الشكل لا إلى المضمون، ينشغل الذين يرفعونه بالبحث في الوسائل التنظيمية والعملية للقيام بهذه المهمة، من إعداد الدعاة الذين سيناط بهم القيام بها، إلى تنظيم قوافل دعوية تطوف المحافظات لكى تقدم لعوام المصريين عظات دينية يفترض أنها ستكون تجديدية، ومن حذف بعض المواد والموضوعات من مناهج التعليم العام والتعليم الأزهرى، إلى بحث أشكال التعاون بين الوزارات والهيئات ذات الصلة بعمليات التنشئة الاجتماعية فيما يتعلق بالأمر، وهو بحث- رغم أهميته- لا صلة مباشرة له بجوهر الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى، وسوف ينتهى في الغالب إلى ما انتهت إليه موجات سابقة من هذه الدعوة، ويسفر عن تغيير زى الدعاة الذين يقومون بهذه المهمة، من الجبة والقفطان إلى الجاكيت والبنطلون الجينز، كما فعل «دعاة الروشنة» في العقدين الماضيين، أو يقصرها على الذين يرتدون الكاكولة والعمامة، استناداً إلى التفسير الشائع للحديث النبوى الذي يدعو إلى عدم التشبه بالكفار، بلبس البنطلون أو الكرافتة أو الببيون!
أما المصطلح الثانى الذي تتكرر الإشارة إليه في كل حديث يتعلق بالأمر، على نحو يدعو للريبة فهو «وضع ضوابط لتجديد الخطاب الدينى»، وهو مصطلح ينصرف هو الآخر إلى الشكل لا إلى المضمون، ينشغل الذين يروجون له بالتأكيد على أن هذا التجديد لا يمس ثوابت العقيدة الإسلامية، أو المعلوم من الدين بالضرورة، على نحو يوحى بالتشكك- أو التشكيك- في الدعوة بمجملها، انطلاقاً من الحملة الدعائية التي شنتها جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها فور إطلاقها، في محاولة للزعم بأن ثورة 30 يونيو كانت ثورة ضد الدين، قبل أن تتنبه إلى أن ذلك لن يكسبها تعاطف الجماهير المصرية، بل سوف يفقدها تعاطف حلفائها في الغرب، الذين صدقوا زعمها بأنها جماعة مدنية سياسية، تفهم الإسلام فهماً عصرياً، ولا صلة لها بجماعات الإرهاب باسم الدين!
ولم يكن الإلحاح على ترويج هذين المصطلحين بعيداً عن محاولات البحث عن بديل لمصطلح «تجديد الخطاب الدينى» بإحلال «التنقية» أو «الإصلاح» محل «التجديد»، وإحلال «الفكر» محل «الخطاب»، من دون أن يقدم الذين يصرون على تغيير المصطلح مبرراً شرعياً أو منطقياً للاعتراض على المصطلح، الذي ورد في الحديث النبوى الذي تنبأ بأن الله سيرسل إلى هذه الأمة، على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها.
باختصار، فإن اختصار قضية تجديد الخطاب الدينى في الآليات والضوابط، وفى الشكل دون الجوهر، هو عملية فرار منظمة- أرجو ألا تكون متعمدة- من المهمة الأساسية، إذ من البديهى أن هذه الآليات ستركز على ترويج ونشر هذا الخطاب الدينى المجدد، وليس من المنطقى أن نبحث في أدوات هذا الترويج قبل أن نخط سطراً واحداً في هذا التجديد، اللهم إلا إذا كنا ننطلق من التسليم بأن الخطاب الدينى القائم الآن لا يحتاج إلى تجديد، بل إلى آليات لنشره وترويجه، وإعداد دعاة للقيام بهذه المهمة المقدسة، وكأن ما يجرى عندنا ومن حولنا من ذبح وقتل وتحطيم للآثار وتوزيع للسبايا وتفجير لأبراج الكهرباء وتهجير للأقليات الدينية، باسم الإسلام، هو أمر طبيعى تماماً وشرعى مائة في المائة.
وبالمثل، فإن الدعوة لوضع ضوابط لتجديد الخطاب الدينى تنطوى على مخاوف مشروعة، من أن يكون الهدف من وضعها هو احتكار الحق في الاجتهاد، وقصر التجديد على فئات بعينها، بدعوى أنها المختصة والمتخصصة في هذا التجديد دون غيرها، في حين أن المسلمين ظلوا لقرون يجتهدون في شؤون دينهم ودنياهم، قبل أن يتأسس التعليم الدينى وتصبح له معاهد تدرس علومه، ومع أن أئمة الفقه الإسلامى، جميعهم لم يدرسوا في أي من هذه المعاهد، ومع أن مصر والعالم الإسلامى عرفا، ويعرفان الآن، عشرات الآلاف ممن درسوا العلوم الدينية وتفقهوا فيها، إلى جانب تخصصاتهم في علوم الدنيا، فساهموا في تجديد الخطاب الدينى، كما عرفا الآلاف ممن تلقوا تعليماً دينياً، وساهموا في تجميد- وليس تجديد- الخطاب الدينى، وفى نشر الخرافات الدينية التي عصفت بالحضارة الإسلامية، والأفكار المتطرفة التي تدعو وتمارس القتل باسم الله!
ومرة أخرى: هل نحن جادون حقاً في تجديد الخطاب الدينى، أم أننا نبحث عن ذرائع للهروب من المهمة، ونتصرف كالتلميذ البليد الذي دعاه المدرس للإجابة عن سؤال، فوقف أمام السبورة، وظل يمسحها ويعيد مسحها، متعللاً بأنه يبحث عن ضوابط وآليات الإجابة؟!