عشنا سنوات طويلة فى سبات عميق، يأتى المسؤول أو الرئيس فنسلم له كل أمرنا، ولا نحاسبه أو حتى نعاتبه إن أخطأ وأساء حكمنا، أو فشل فى إدارة أمورنا، وننفخ فيه من صمتنا وخوفنا وريائنا حتى نخلق منه فرعوناً كبيراً، حوله فراعين صغار من حاشيته ومساعديه ووزرائه، يتفرعنون على الغلابة والبسطاء، وقامت ثورة ٢٥ يناير، وتذكر الناس أنهم أصحاب السلطة الحقيقيون، الذين يمنحون المقاعد ويمنعونها، إنهم الأسياد القائمون على شؤونهم، هذا الانقلاب المفاجئ من النقيض للنقيض أفقدنا الفهم الصحيح للمعايير، والقيم الحقيقية والموضوعية التى يتم على أساسها محاسبة من نوليه أمرنا، وبتنا نحاسب المسؤول بالقطعة، ولا نضع اعتباراً للظروف والمعوقات والمشاكل والمناخ الذى يعمل فيه، لذا لم نتحمل الرئيس المعزول محمد مرسى وجماعته الغبية عاماً واحداً، وأقصيناه بثورة ٣٠ يونيو، التى أتمنى أن تكون آخر الثورات حتى تستقر البلاد، ونبدأ البناء الحقيقى لدولة قوية، وهو أمر لم ولن يتحقق مادام هناك عيبان خطيران فى نفوسنا:
الأول: المفهوم الخاطئ لطريقة وأسلوب محاسبة الرئيس أو المسؤول، وتحميله مسؤولية أى خطأ يقع من أى موظف صغير يعمل فى مصلحة حكومية، أو مجلس محلى، إضافة إلى إهمال الظروف التى يعمل فيها ولى الأمر.
العيب الثانى: هو غياب مشاركة أصحاب الشأن- وهم الناس- عن المشهد، واعتبار أن دورهم يقف عند انتخاب الرئيس، أو اختيار المسؤول، وعليه هو أن يقوم بدوره ودورنا، وألا يتم إقصاؤه، فلا توجد دولة أو مؤسسة أو شركة تقوم على فرد، مهما كانت إمكانياته وقدراته، فإذا لم يتعاون الجميع، فنحن نسير إلى الفشل لا محالة، وسنظل ندور فى حلقة مفرغة للبحث عن نجاح لن يأتى، ومسؤول خارق لن يظهر.
هذه الطريقة الفاشلة فى المحاسبة، التى جاءت نتيجة لقلة خبرتنا فى ممارسة الحياة الديمقراطية بشكل صحى وسليم، أراها تتحقق فى التعامل مع مؤسستين: الرئاسة، والنادى الأهلى، فالأولى تحكم الدولة الكبيرة، والثانية نموذج لكثير من مؤسساتنا الكبرى التى شاخت، ولم تتدفق فى عروقها دماء التغيير سنوات طويلة.
أولاً: مر عام على الرئيس «السيسى»، وهو بشر مثلنا، له حدود وإمكانيات وأخطاء، ومن الظلم أن نحمّله أحلاماً وطموحات لا تتحقق إلا بمعجزات.. فالبطالة، وتعفن الجهاز الإدارى، وانهيار الخدمات الصحية والتعليمية، والظروف المعيشية الضنك لقطاع كبير من الشعب، والفساد الذى يتنفسه الناس فى الشوارع والمصالح الحكومية والشركات الخاصة، وأهلنا من المغيبين المنتمين للإخوان الذين قرروا الانتقام من الشعب بتصرفاتهم الصبيانية - كلها مشاكل أكبر من ألف سيسى، لذا من الظلم أن نحاسب الرجل دون أن نضع هذه الظروف فى اعتبارنا ونحن نقيّم ما أنجزه، وما فشل فيه، وما وعد به ولم يكمله، ويبقى السؤال: هل البداية مرضية؟ نعم، بل أكثر من مرضية، فقد وضعنا قدمنا على أولى خطوات الاستقرار، وبدأت تظهر ملامح دولة ظلت غائبة ثلاثين عاماً، ثم تاهت ثلاث سنوات فى ثورتين، وأحداث جسيمة هزت الشخصية المصرية، وإذا كان الرئيس أخطأ، بالطبع لأنه بشر، فالمهم أنه يسمع ويراجع نفسه، ويعتذر عند اللزوم.
ثانياً: كما تغيرت مصر تغيرت دولة النادى الأهلى، وتولى أمرها مجموعة لم يلوثها فساد الإدارة الرياضية، ولديها طموحات وأحلام أكبر من الإمكانيات على الأرض، لكنها أنجزت وأعادت الحياة لمنشآت النادى، وفتحت آفاقاً لتوسعات فى فروع جديدة بالشيخ زايد، والتجمع الخامس، وحلم بناء استاد للنادى الأكبر فى أفريقيا والوطن العربى، لكن لمجرد أن اهتزت نتائج فريق الكرة ظهرت الغربان لتأكل لحم الطفل الوليد قبل أن ينضج ويعيد القوة والعافية لدولة الأهلى، متجاهلين أن فريق الكرة حقق فى العام الأول للإدارة الجديدة ثلاث بطولات وهو فى مرحلة إعادة البناء، والأهم تغيير المقومات وتحسين الظروف عما كانت عليه فى السنوات الماضية، حيث يتقاضى اللاعبون والأجهزة الفنية والعاملون رواتبهم فى موعدها، وجهاز الكرة يضم الخبرة فى علاء عبدالصادق، والشباب فى وائل جمعة، وكان معهما مدرب إسبانى صاحب سيرة ذاتية محترمة، ومازلت على قناعتى بأنه أضاف للفريق، لكن لم تمهله الإدارة الفرصة، واستجابت - لقلة خبرتها - للضغوط، وأقالته وعادت إلى حل قديم لا يبنى مستقبلاً، لكنه يخرجها من أزمة.
أقصد أن الإدارة فعلت ما يجب أن يُفعل، وعلينا أن نحاسبها فى إطار ظروفها، والمعطيات المتوافرة لديها، وألا نهدم المعبد لنعيد البناء لمجرد خسارة بطولة، لكن أن يخرج الغربان تحت قيادة وزير الرياضة الإخوانى العاطل السابق ليقود حملة تبغى الهدم لا المراجعة والنقد والتقويم، فهذا هو الفهم الخاطئ للمراجعة والمحاسبة التى تحدثت عنها فى بداية المقال.
■ ■ ■
انتفض الإعلام المصرى مُكبّراً ومهللاً لسقوط دولة الفساد فى «فيفا»، وأفردت للمتابعة والتحليل صفحات وأغلفة مجلات ومانشيتات الصفحات الأولى لكبريات الصحف اليومية، ناهيك عن ساعات البث لزملائنا الإعلاميين فى البرامج التليفزيونية، وهنا أريد أن أشير إلى ملحوظتين:
الأولى: مخطئ من يظن أن العالم يغسل نفسه من الفساد، فالوقائع التى يحاسب عليها أعضاء المكتب التنفيذى لـ«فيفا» معروفة منذ سنوات، والمستندات كانت متو فرة لدى جهات التحقيق الأمريكية التى ألقت القبض على أعضاء «فيفا» فى سويسرا، رغم تواجدهم على أراضيها قبل ساعات، لكنها أرادت أن يأتى الإعلان قبل ساعات من الانتخابات، كى توصل الرسالة إلى روسيا، وتنبهها إلى أنها قادرة على أن تسحب منها تنظيم مونديال ٢٠١٨، ودهاليز وتفاصيل أخرى ليست الرياضة الجزء الأهم فيها، لذا علينا ألا نفرط فى الحماس، ونعتقد أن عالم كرة القدم سيغسل نفسه من الفساد.
ثانياً: كعادتنا، بمجرد أن يقع الثور تكثر السكاكين، ويظهر أبطال الورق، إذ وجدت من يتخذ مما حدث لـ«بلاتر» وحاشيته الفرصة ليشفى غليله، ويصفى حساباته من المهندس هانى أبوريدة، عضو المكتب التنفيذى للاتحادين الدولى والأفريقى، الذى قرر البعض أن يضعه متهماً «على الريحة»، ووجدت إعلامياً يدافع عنه من قبيل تأكيد إدانته، على أمل أن يزيحه من منافسته فى اتحاد الكرة.
يا جماعة: إذا كنا بايعين ابن بلدنا والإعلام بيسلمه تسليم أهالى، تفتكروا الغريب حيشتريه، هذا النوع من الأذى المجانى غير القائم على دليل أمر مخجل.