مصر الحال والأحوال.. المسلسل التليفزيونى المصرى

عبد الرحيم كمال الأربعاء 10-06-2015 21:25

فى سنة ١٩٦٢، ومن خلال نور الدمرداش مخرجا وفيصل ندا قاصًّا تليفزيونيا وكاتبا عن قصة أدبية لثروت أباظة، وبتمثيل وأداء عبدالله غيث، كمال ياسين، عبدالرحيم الزرقانى، حسين رياض، مديحة سالم، محمود عزمى، محمود الحدينى، إحسان القلعاوى، عادل المهيلمى، توفيق الدقن، سعيد صالح، وحسين قنديل- ظهر أول مسلسل تليفزيونى مصرى، وكان اسمه (هارب من الأيام)، وبدأت به رحلة الدراما التليفزيونية عشرتها مع المشاهد فى رحلة ممتدة حتى الآن.

والعجيب أن الدراما التليفزيونية، من حيث النص المكتوب، بدأت نصا مصريا خالصا من بنات أفكار كتاب مصريين، سواء كانوا روائيين أو سيناريستات يجربون الكتابة لتلك الشاشة الصغيرة، على عكس الكتابات السينمائية التى اتجهت للاقتباس والتمصير فى أكثر من ثمانين فى المائة من إنتاجها، كان الحكى التليفزيون المصرى المتسلسل فى تطور مستمر من الستينيات إلى السبعينيات، ثم الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، لتظهر مسلسلات تستطيع أن تجذب الجمهور، وتجلسهم أمام الشاشة فى سعادة وانبهار. لم تكن الثلاثون حلقة ظهرت بعد، لكنها كانت ثلاث عشرة حلقة، ما يتيح فرصة تقديم أكثر من مسلسل فى الشهر، وتسابقت الأقلام، وتنافست المواهب ليظهر جيل من الكتاب وجيل من نجوم التمثيل التليفزيونى، بعد أن برع عبدالله غيث فى المسلسل الأول، وقدم دورا مركبا عن شاب فى قرية مصرية تراه نهارا أبله يمسك بطبلة لا يأبه به أحد، وليلا ثائرا ناشطا يحرّض ضد الظلم والطغيان. لقد صار بالإمكان إذًا أن تظهر طاقاتك الفنية فى تلك الشاشة الصغيرة وغير الملونة فى حينها، ويكون لك جمهور أيضا.

وانطلقت الحكايات المسلسلة المصرية تضحكهم، وتبكيهم، وتشد انتباههم فى قوة وبراءة وتفرد ومعايير وأسس مختلفة عن حكايات السينما فى نفس التوقيت، لم يكن الوضع وضع تنافس أو تحدٍّ أو حتى صراع طبقى بين الشاشتين، لكن كان هناك حصان مصرى جديد يجرى فى مضماره الذى صنعه لنفسه مستعينا بعقول شابة نضرة مارس معظمها الأدب فى البداية، ثم بدأ التجريب فى الكتابة التليفزيونية، وصار هناك شباك آخر للحكى، وصار بإمكانك أن تحكى كل ليلة كشهزراد.

لم يكن ذلك متاحا من قبل إلا عبر الإذاعة أما أن تكون قصصا مصورة ناطقة، فهى تجربة مثيرة تستحق أن تصنع هذا الزخم، وتستحق أن ينزل ساحتها فرسان شباب قادرون، فيظهر فيصل ندا ومحفوظ عبدالرحمن ومحسن زايد وصالح مرسى وأسامة أنور عكاشة ولينين الرملى وعصام الجمبلاطى وإبراهيم مسعود، ويضحك الجمهور مع كابتن ميزو، ويبكون مع الضباب، وينبهرون بأحلام الفتى الطائر، ويشعرون بأنهم جزء من عائلة الدوغرى، فى كل شهر قصة جديدة ملهمة وأفكار لامعة ومخرجون قادرون، وإن كانت الكتابة التليفزيونية تظل فى مقدمة الفرسان، لأنها هى صاحبة السر، كتابة حريصة على أصالتها ومصريتها، بيوت مصرية من طبقة وسطى غالبة على المشهد، ويتألق أسامة أنور عكاشة بقصصه إلى جوار الآخرين الذين كانت لهم أيضا ضرباتهم الفنية البارزة، فإلى جوار حوارى وشوارع وأسر أسامة أنور عكاشة، هناك محمد جلال عبدالقوى بقصصه الجميلة أيضا، وهناك لينين الرملى بخفة ظله وذكائه، وهناك محفوظ عبدالرحمن بسرده التاريخى الرئع، وهناك وحيد حامد بحيويته ومعاصرته وقضاياه، وهناك محسن زايد بتشريحه ورؤيته وأسئلته، ويسرى الجندى بقصصه التراثية. الساحة مليئة بالأبطال المهرة، مليئة بسحرة الدراما الحقيقيين والذاكرة تمتلئ بقصصهم الأصيلة الخالدة (أبنائى الأعزاء شكرا، نهاية العالم ليست غدا، أحلام الفتى الطائر، الراية البيضا، أنا وانت وبابا فى المشمش، الكتابة على لحم يحترق، ولسه بحلم بيوم، مارد الجبل، برج الحظ، غوايش، المال والبنون... إلخ).

القائمة طويلة وممتدة، والكتابة مصرية وأصيلة وحقيقية وشخصيات حية.. من ينسى جملة [أنا البرادعى يا رشدى] فى مسلسل (وتوالت الأحداث عاصفة) وشخصية شرارة المنحوس فى (برج الحظ) و(حسن عابدين) بكل قصصه، ومع الوقت زاد عدد الحلقات، وصارت السنة شهرا، واستوردت الأفكار وصرنا نحفظ أسماء الشخصيات التركية وأسماء المدبلجين السوريين، ونتابع قصصهم التى شاهدناها قبل ذلك عندنا فى سنوات العز التليفزيونى بصياغة أفضل، وظهرت مدرسة (تكسير الدنيا) وهو التعبير السائد عن نجاح المسلسلات. والعجيب أن كل المسلسلات ناجحة، وكل المسلسلات تكسر الدنيا، هى بالفعل تكسر الدنيا والإيقاع والمتابعة، وتكسر فى طريقها أيضا ميزتها الوحيدة التى بدأت بها، وهى أنها كانت مسلسلات محلية الفكر والتصنيع، وصارت فى غالبها مسلسلات كأنها مدبلجة فقط باللهجة المصرية!.